دَخَلَ لبنان عطلة الميلاد، عيْنه على «عيدية» يتمنى أن تطلّ مع السنة الجديدة باستعادة الجمهورية «رأسها المقطوع» (منذ 1 نوفمبر 2022)، وقلْبه على إمكان أن تعودَ الحربُ الأكثر تَوَحُّشاً التي زجّتْه في مطحنةِ دم ودمار وذلك في ضوء تَحَوّل وقْف النار الذي تنتهي مرحلتُه الانتقالية (من 60 يوماً) بعد شهرٍ أشبه بـ «بيتٍ بمنازل كثيرة» والتباساتٍ بتفسيراتٍ عديدة، تجعل بالحدّ الأدنى ما تَعتبره بيروت خروقاً فاضحةً من تل أبيب «حقوقاً» بمفهوم إسرائيل كَرَّسَها الاتفاقُ «مَرْحلياً» أو... لكلّ المرات.
فلبنان يقف منذ الانتكاسات الكبرى التي أصابتْ «حزب الله» في حرب الـ 65 يوماً الضارية والتي خَرَجَ منها مثخناً بالجِراح، ثم تهاوي نظام بشار الأسد في سورية، بين ماضٍ وتوازنات في الداخل والاقليم صارت على وزن «كان يا ما كان» ومستقبلٍ لم تكتمل ولادته بعد في انتظار أن يهدأ «خط الزلزال» في المنطقة ويستوعب الأطراف المعنيون، على ضفتيْ محور إيران وخصومه، «موجات الصدمات» المتوالية التي باتت معها طهران «شبه وحيدة» تحت قوس «وحدة الساحات» التي تفكّكت والنفوذ الذي تَفَتَّت.
وإذا كان انتخابُ رئيسٍ للجمهورية بمواصفات «لبنان الجديد» يُراد أن يُشكّل «رصاصة انطلاقِ» بناء الدولةِ التي «تَقطع» مع الفساد المالي والإداري و«السياسي» وتحتكر السلاح على عموم الـ 10452 كيلومتراً مربّعاً، فإنّ الخشيةَ تزداد من أن تستعيد «بلادُ الأرز» تَجارب «العربة التي يجرّها حصانان» في اتجاهيْن متعاكسيْن، سواء ربْطاً بمحاولة «الممانعة الجريحة» عَكْس عقارب الساعة ومَنْع «الزمن الذي تَحَوَّل» من أن يصبح حقيقةً، أو انطلاقاً من المَخاطر الماثلة على جبهة الجنوب حيث لايزال «الجمر تحت رمادِ» هدنةٍ... متحركة.
"فنجان» السنة الطالعة
ولم يكن عابراً أن كل قراءةٍ «في فنجان» السنة الطالعة لبنانياً يتمّ انطلاقاً من واقعِ الاقليم الذي يقف على كفّ تحولاتٍ متدحرجة تشكّل إيران محورَها، باعتبار أنها تصبّ كلها عند «تجريد» طهران من أذرعها وإعادتها إلى «القمقم» بعد عقدين ونيف من مدّ نفوذها على بساطٍ تمت حياكتُه بغضِّ نَظَرٍ دولي تارةً و«شراكة خفية» طوراً، ما حوّلها لاعباً رئيسياً أقلّه في 4 ساحات عربية جاهرتْ بأنها باتت «تسيطر عليها»، إلى أن حلّ «طوفان الأقصى» الذي أَغْرق المحور... بمَن فيه.
فإلى الحَدَث السوري وتداعياته المتشابكة وما يعبّر عنه من متغيرات جيو - سياسية، الى جانب الانطباعِ بأن التفاهمَ على حلّ «الفصائل الثّوريّة» ودَمْجها تحت مظلّة وزارة الدّفاع سيكون له «تأثير الدومينو» على واقع الكيانات الرديفة للدولة في العراق ولبنان، توقّفت أوساط سياسية عند تمديد اسرائيل حال الطوارئ حتى ديسمبر 2025، معربة عن اعتقادها أن هذا التطور «ثلاثي البُعد» ويتّصل بإصرار تل أبيب على «اجتثاث» الخطر الحوثي وضمان إبعاد ضرر «حزب الله» وربما ضرب «رأس الأخطبوط» نفسه، إيران.
وهنا مكمن القلق اللبناني في ضوء الاقتناع بأن «حزب الله» لم يسلّم بعد بالمعادلات الجديدة في الداخل والإقليم والخشية من أن يَمْضي في «سوء الحساب» بعد انتهاء فترة الستين يوماً من وقْف النار (منذ 27 نوفمبر)، ما قد يقدّم فرصةً لبنيامين نتنياهو لإنهاءٍ جذري، ضمن حربِ «الجبهات السبع»، لـ «ملف الحزب» مستفيداً من «جدار العزل» الذي بات قائماً (بحُكْم خروج سورية من «المحور») بينه وبين إيران التي وجدتْ نفسها بعد 20 عاماً أمام «الكابوس» نفسه الذي كان ماثلاً وشكّل «المسرح السياسي» لاغتيال الرئيس رفيق الحريري ويتمثّل بانهيار «نظام الأسديْن» وانفلاش «حُكْم الأكثريات» في المنطقة انطلاقاً من العراق.
«تكملة الحرب»
والواقع أن إسرائيل تبدو كمَن يَستدعي «تكملة الحرب»، بخروقها المتكرّرة لوقف النار متذرّعة بأن الستين يوماً الانتقالية لم تنتهِ وبأنّ «ملحق الضمانات السرية» بينها وبين واشنطن يتيح لها، في كل حين، أن تأخذ بيدها التصدي لِما تَعتبره تهديداً وشيكاً، جنوب الليطاني وشماله، في الوقت الذي تزداد المخاوف من أن يكون انسحابها السلحفاتي من قرى الحافة الأمامية (مازال 62 منها محظور الدخول اليه) مقدّمة لربْط خروجِها بشروطٍ أمنية وعسكرية أكثر تشدُّداً وربما تطلّ على السياسة من باب «الحل المستدام».
هوكشتاين
وإذ تتجه الأنظار إلى زيارةٍ مرتقبة للموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت غداة حلول 2025، هو الذي يتشارك رئاسة لجنة الرقابة الخماسية على تطبيق اتفاق وقف النار مع جنرال أميركي، وسط عدم استبعاد أن يسعى لتمديد فترة الستين يوماً شهريْن إضافييْن، قدّمت بعثة لبنان الدّائمة لدى الأمم المتّحدة في نيويورك أمس شكوى إلى مجلس الأمن، تتضمّن «احتجاجاً شديداً على الخروق المتكرّرة الّتي ترتكبها إسرائيل لـ«إعلان وقف الأعمال العدائيّة والالتزامات ذات الصّلة بترتيبات الأمن المعزّزة تجاه تنفيذ القرار 1701 (المعروفة بترتيبات وقف النّار)، والّتي بلغت أكثر من 816 اعتداءً برّياً وجوّياً بين 27 نوفمبر و22 ديسمبر 2024".
وعدّدت الشكوى الخروق «من قصفٍ للقرى الحدوديّة تفخيخ للمنازل وتدمير للأحياء السّكنيّة»، معتبرة أنها «تُقوّض مساعي التّهدئة وتُمثِّل تهديداً خطيراً للجهود الدولية لتحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة، كما تعقّد جهود لبنان بتنفيذ بنود القرار 1701 وتضع العراقيل أمام انتشار الجيش اللبناني جنوباً». وإذ جدّد لبنان «التزامه بالقرارات الدّوليّة وتطبيق ترتيبات وقف الأعمال العدائيّة»، أكّد «أنّه تَجاوب بشكل كامل مع الدّعوات الدّوليّة لتهدئة الوضع، ومازال يُظهر أقصى درجات ضبط النّفس والتّعاون لتجنّب الوقوع مجدّداً في جحيم الحرب»، داعياً مجلس الأمن والدّول الراعية لهذه التّرتيبات «لاتخاذ موقف حازم إزاء خروق إسرائيل وإلزامها باحترام التزاماتها بموجب إعلان وقف الأعمال العدائيّة».
اجتماع السرايا
وعلى وقع هذه الشكوى ترأس رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي اجتماع السرايا، والذي ضم قائد الجيش العماد جوزيف واللجنة التقنية لمراقبة وقف النار التي ضمت رئيسها الجنرال الاميركي جاسبر جيفرز والجنرال الفرنسي غيوم بونشان، وقائد قطاع جنوب الليطاني في الجيش اللبناني العميد الركن إدغار لاوندس وقائد «اليونيفيل» الجنرال ارالدو لاثارو، وذلك لبحث الخروق الاسرائيلية ووجوب وقفها وتسريع الانسحاب من الجنوب، وسط تقارير في تل ابيب نقلت عن مسؤولين اسرائيليين أن «الانسحاب من جنوب لبنان قد يتم بوتيرة أبطأ من المتوقّع بسبب الانتشار البطيء للجيش اللبناني في المنطقة والذي يثير التساؤل بشأن كيفية تصرّف إسرائيل في اليوم الستين لوقف النار».
جنبلاط
في هذا الوقت، بقي الزعيمُ الدرزي وليد جنبلاط وحركته الخارجية محور اهتمامٍ كبير حيث حطّ أمس في تركيا والتقى الرئيس رجب طيب أردوغان، وذلك بعد يومين من زيارته لـ «سورية الجديدة» ولقائه القائد العام للإدارة الجديدة أحمد الشرع، وسط اعتقادٍ بأن الرئيس السابق لـ«التقدمي الاشتراكي» الذي أَحْدَث «ربط نزاع» إيجابياً مبكّراً مع دمشق «ما بعد الأسدين» يستكمل الإحاطةَ بمختلف أبعاد التحوّل التاريخي في «بلاد الشام» بتأثيراته على لبنان والمنطقة، وفي ظل تقارير صحافية تحدّثت عن أنه يمكن أن يضطلع بدور وساطةٍ لوأد الصراع بين أنقرة و«قوات سورية الديمقراطية» (قسد) قبل أن يتحوّل «جاذبة صواعق».
«فلسطينيو سورية»
ولم تحجب حركة جنبلاط الاهتمامَ بمعاني قرب إنهاء الجيش اللبناني طيّ صفحةٍ عمرها عقود من استباحة «فلسطينيي سورية» (لاسيما الجبهة الشعبية - القيادة العامة وفتح الانتفاضة) السيادة اللبنانية بقواعد عسكرية في مناطق عدة، وسط استعداداتٍ لأن يتسلّم خلال الساعات المقبلة أنفاق الناعمة (من «القيادة العامة)، لتكون آخِر حلقة في سبحةِ الوجود الفلسطيني المسلّح خارج المخيمات، وفي ظلّ اقتناعٍ بأن«ملحقاً» لهذا التطور سيكون داخل المخيمات التي تحوّلت«جزراً أمنية» وساحاتِ صراعٍ داخلي، ولكن بامتدادات إقليمية، على«الإمرة لمَن» فيها وتالياً على مَن يُمْسِك بورقة الشتات التي استُخدمت في جانب منها ذريعة ضمنية لتبرير السلاح اللبناني خارج الشرعية».
وبإنجاز الجيش اللبناني تنفيذ شقّ مهمّ من القرار 1701 وأحد بنود طاولة الحوار الوطني لعام 2006 (نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ومعالجته داخلها)، يكون مَهَّدَ لمرحلة جديدة بدأت تُترجم فيها نتائج التراجعات الكبيرة لـ«محور الممانعة» في لبنان والإقليم، في ظلّ تَرَقُّبِ هل سيكون متاحاً إيجاد أرضية توفّق بين روحيةِ اتفاق وقف النار ومندرجاته التي تتمحور حول إنهاءِ وضعية سلاح «حزب الله» خارج الدولة في كل لبنان، وبين عدم زجّ البلاد في أتون «الحرب الأخيرة»، وفق معادلةٍ باتت إسرائيل عملياً تضع لبنان أمامها، ويقع عدم الانزلاق إليها على عاتق الحزب بالدرجة الأولى وهل يختار السيئ أو الأسوأ.