يمثّل سقوطُ بشار الأسد والصعود السريع لأحمد الشرع، المعروف أيضاً باسم أبومحمد الجولاني، كزعيمٍ فعلي لسورية الجديدة، تحولاً زلزالياً في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وقد ساهم الدورُ المحوري الذي لعبتْه تركيا في تنظيم هذا التحول في السلطة والاستفادة منه بتعزيز مكانتها كقوةٍ إقليمية متقدّمة.
واعترف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أخيراً بالانتصار الإستراتيجي لأنقرة، وإن كان أَرْفَقَ بانتقادات، قائلاً إن «تركيا اتخذت خطوة غير ودية بالاستيلاء على سورية»، وهي التصريحاتُ التي سلّطتْ الضوءَ عن غير قصدٍ على الدعم التركي المدروس والمنفَّذ بدقّة والذي نجح، حيث فشل آخَرون.
والواقعُ أن إنجازَ أنقرة، يتناقض في شكلٍ صارخٍ مع الجهود الجَماعية لعشرات الدول التي ضخّت مئات المليارات من الدولارات، ومع 13 عاماً من محاولاتِ الإطاحة بالأسد خلال الصراع المطوّل في «بلاد الشام» وعليها.
ورغم التعبئة الهائلة، فشلتْ هذه الجهود في نهاية المطاف في تحقيق أهدافها، بل أسفرتْ بدل ذلك عن خسائر فادحة وصراعٍ دمّر النسيج الاجتماعي والبنية الأساسية لسورية والدول المُجاوِرة.
ولكن أنقرة انتظرتْ بصبرٍ اللحظةَ المناسبةَ واستغلّت أخطاءَ الأسد الدبلوماسية، وتباعده المتزايد عن حلفائه الرئيسيين مثل روسيا وإيران، والحرب على لبنان، وعجْزِه عن معالجة الأزمات المحلية والإقليمية المُلِحّة.
وقد أَوْجَدَتْ هذه العوامل فراغاً ملأتْه أنقرة بمهارةٍ، فتحوّلت من لاعب عادي إلى المهندس الحاسم لمستقبل سورية بعد الأسد. ومن خلال وضْع نفسها كقوةٍ مركزية في حقبةِ ما بعد الأسد، أعادتْ تركيا تعريفَ دورها في المنطقة، وبرزتْ كقوة متقدّمة في واحدةٍ من أهمّ عمليات إعادة التنظيم الجيو - سياسي في تاريخ معاودة ترتيب الشرق الأوسط الحديث.
سقوط الأسد: انقلاب مدروس
ساهم تَقاطُعُ مجموعة عوامل في نجاح الانقلاب الاستراتيجي التركي ضد الأسد وبلوغِ التحول السريع من دون جهد تقريباً.
فقد أضعفت الأحداثُ الرئيسية موقف الأسد بشكل كبير في الفترة التي سبقت سقوطه. ومن بين هذه الأحداث، كان فشله في الحوار الوطني والمصالحة والالتزام بمقررات أستانة وامتناعه عن دعم غزة و«حزب الله» خلال الهجوم الإسرائيلي العنيف. وكشف هذا القرار عن إحجام الأسد عن مواجهة إسرائيل في شكل مباشر، وهو الموقف الذي أدى إلى تآكل صدقيته داخل محور المقاومة وترْكه عرضةً للخطر سياسياً.
في حين أن منطق الأسد لتجنّب الحرب المباشرة مع إسرائيل ربما كان قائماً على الرغبة في منْع أن تتعرّض سورية لموجات الدمار الواسع النطاق الذي طاول غزة ولبنان.
ويَعتقد البعض انه لو اختار الأسد الانخراطَ عسكرياً ضد إسرائيل، فإن موقفه بين الشعوب العربية كان ليتعزز بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مواجهةَ إسرائيل لثلاث جبهات متزامنة، غزة، «حزب الله» في لبنان، وسورية على حدودها المباشرة - كان ليؤدي إلى تصعيد الصراع إلى مستوى كان من الممكن أن يجبر الولايات المتحدة على التدخل لاحتواء امتداده الإقليمي.
وربما كان مثل هذا السيناريو ليجبر إيران أيضاً على الانخراط بشكل أكثر مباشرة، ما يؤدي إلى تحول ميزان القوى وتعزيز موقف الأسد داخل «محور المقاومة» ليَفرض المحافظة على نظامه كعدو لإسرائيل ومُواجِه لها.
ومع ذلك، قدّم تَقاعُسُ الأسد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرصةً لتفكيك «محور المقاومة» استراتيجياً عضواً تلو الآخَر. فمن خلال تحييد نفسه، فرض الأسد على إيران إعادة النظر في استعدادها لتحمل خسائر فادحة في محاولة يائسة لإنقاذه في المدن الأخيرة التي يسيطر عليها ـ حمص ودمشق.
وبالتالي فإن سوء تقدير الأسد الاستراتيجي ومضايقته للوجود الإيراني في العامين الأخيرين ورفْضه لعودة الحوار الداخلي لم يضعف موقفه فحسب، بل مهّد الطريق أيضاً لإعادة تشكيل توازن القوى الإقليمي، الأمر الذي ترك حلفاءه معزولين على نحو متزايد.
التداعيات الرئيسية للطاقة وخطوط الأنابيب: تركيا كمركز للغاز
حافظ الاتحاد الأوروبي تاريخياً على علاقة معقّدة مع تركيا، تميّزت بالاعتماد المتبادل والتوترات الكامنة.
وتعمل سورية ما بعد الأسد على تضخيم هذه الديناميات. وتظلّ أنقرة بمثابة العازل الأساسي للاتحاد الأوروبي ضد الهجرة الجَماعية من سورية.
ومع احتمال استمرار عدم الاستقرار في سورية، فإن اعتماد الاتحاد الأوروبي على تركيا لإدارة تدفّقات الهجرة أصبح أكثر أهمية من أي وقت.
وبصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي، فإن نفوذ تركيا في سورية يعزز المصالح الغربية في مواجهة، أو على الأقل موازنة، الطموحات الروسية والإيرانية.
وعلى الرغم من خلافاته معها، فإن الاتحاد الأوروبي يدرك ضرورة التعاون مع أنقرة للحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
ويحمل صعود تركيا في سورية تأثيراً مهماً على ديناميات الطاقة الإقليمية والأوروبية ويعيد فتح المناقشات حول العديد من مشاريع خطوط أنابيب الطاقة التي يمكن أن تعيد تدفقها عبر الشرق الأوسط وأوروبا بعد تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي ما جعل الدور المحتمل لتركيا كمركز للطاقة أكثر جاذبية لأوروبا.
خط أنابيب الغاز قطر تركيا
في العام 2009، رفض الأسد اقتراحا بإنشاء خط أنابيب قطر - تركيا الذي كان من شأنه أن يسمح للغاز القطري بالتدفق عبر سورية، إلى تركيا، ثم إلى أوروبا.
وتمّ تصميمُ هذا الخط في شكل استراتيجي لتجاوز هيمنة روسيا على إمدادات الطاقة في أوروبا. وأدى رَفْضُ الأسد، مدفوعاً بانحيازه إلى موسكو وطهران، إلى تأجيل المشروع فعلياً لأكثر من عقد من الزمان.
والآن، مع إزاحة الأسد ولعب تركيا دوراً محورياً في مستقبل سورية، أصبح خط أنابيب قطر تركيا قابلاً للتطبيق.
ومن شأن مثل هذا المشروع أن يغيّر في شكل كبير ديناميات الطاقة العالمية، ويوفّر لأوروبا بديلاً للغاز الروسي ويقلّل من تعرضها لانقطاعات الإمدادات.
كما أن إحياء هذا الخط يمكن أن يضع تركيا في موضع مركز طاقة حاسم، ويعزز نفوذها على أسواق الطاقة الأوروبية.
خط أنابيب الغاز بين إيران وسورية
على النقيض من خط الأنابيب بين قطر وتركيا، دَعَمَ نظام الأسد اتفاقية عام 2011 لإنشاء خط أنابيب للغاز من إيران، عبر العراق وسورية، إلى البحر المتوسط. وكان الهدف من هذا المشروع ترسيخ مكانة إيران كمورد مهيمن للطاقة في المنطقة.
ومع ذلك، ومع عداء القيادة الجديدة في سورية علناً للنفوذ الإيراني وتحالفها مع تركيا، فإن مستقبل هذا الخط غير مؤكد.
وقد تلعب تركيا دوراً محورياً في تحديد مصير هذا المشروع. وإذا اختارت أنقرة التوسط بين طهران والقيادة السورية الجديدة، فقد تَظهر كوسيط للمَصالح المتنافسة في مجال الطاقة.
ومن خلال تسهيل أو عرقلة تطوير خط الأنابيب، قد تتمكّن أنقرة من موازنة نفوذها على سياسات الطاقة الإقليمية أو تضخيمه.
خط أنابيب الغاز المصري - السوري
كان خط أنابيب الغاز المصري - السوري، المصمَّم لنقل الغاز الطبيعي من مصر إلى سورية وربما إلى أسواق إقليمية أخرى، ضحيةً أخرى للصراع المطول في سورية. ومع وجود حكومة موالية لتركيا في السلطة الآن في دمشق، فإن إحياء خط الأنابيب - فقط إذا كان متوافقاً مع مصلحة أنقرة - يمكن أن يشكل جزءاَ من جهد أوسع لدمج إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط في الأسواق الأوروبية.
ومن شأن سيطرة أنقرة على هذه العملية أن تعزز أهميتها الإستراتيجية لأوروبا ودورها كمركز عبورٍ رئيسي لإمدادات الطاقة من الشرق الأوسط.
كما يتماشى هذا التطور مع الحاجة المُلِحّة لأوروبا إلى مصادر طاقة متنوعة في أعقاب رفْضها للغاز الروسي.
دور روسيا وإيران في سورية
لطالما اعتمدتْ روسيا على قاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدة حميميم الجوية لفرض قوتها في البحر الأبيض المتوسط والحفاظ على النفوذ في الشرق الأوسط.
ومع سقوط الأسد، فإن رضى تركيا على احتفاظ موسكو بحضورٍ في طرطوس يسمح للأخيرة بالحفاظ على بصمتها العسكرية ونافذتها على المتوسط لكن يقلل من دورها المهيمن سابقاً في المنطقة.
كذلك تواجه إيران تحدياً كبيراً في أعقاب سقوط الأسد. إذ لطالما كانت سورية حجر الزاوية في استراتيجية طهران الإقليمية، حيث كانت بمثابة ممرّ حيوي لشحنات الأسلحة إلى «حزب الله»، وقاعدة لنفوذها في بلاد الشام، وحامية للأضرحة الدينية الرئيسية.
وتجد طهران نفسها معزولةً بشكل متزايد في سورية وتحتاج لتركيا لإعطائها موقع قدم ولو بسيط في «بلاد الشام».
وقدرة أنقرة على التوسط بين طهران والقيادة السورية الجديدة تضع تركيا في موقف حارس البوابة لإعادة إيران إلى المشهد السياسي السوري. وقدرة طهران على الحفاظ على مصالحها - مثل الحفاظ على الطرق اللوجستية للحزب - ستعتمد على مدى استعدادها للتعامل مع تركيا كوسيط وقبول القيادة الجديدة بذلك، وهذا مشكوك فيه في الوقت الراهن.
الخلاصة:
يؤكد نجاحُ تركيا، قدرتَها على التنقّل عبر شبكةٍ معقّدة من التحالفات والمنافسات، والاستفادة من موقعها الجيو- سياسي.
ومع تعزيز أنقرة لمكاسبها، فإن الآثار الأوسع نطاقاً المترتّبة على صعودها ستشكل تحدياً كبيراً.