لن تأخذ العناوينُ السياسيةُ والأمنيةُ استراحةً كاملةً في عطلة الميلاد، وبعدها رأس السنة، التي يستعدّ لها لبنان، عيْناً على وداعِ عامٍ سيُطوى بأحداثه التي دخلت التاريخ من الباب العريض، وعيْناً أخرى على 2025 التي ستطلّ بـ«ودائع» من سنةٍ وكأنّها «دَهْرٌ» حُشر في أشهر قليلة.

فإلى اتفاقِ وقف النار بين لبنان وإسرائيل والخروق الإسرائيلية المتمادية التي لن تأخذ محاولاتُ ضبْطها أو تنظيمها «وقتاً مستقطعاً» في ضوء الخشية من أن تكون تل أبيب تَعتبر «فترة الشهرين الاختبارية» مجرّد «تهدئة بين عاصفتين» وتريد أن تكون الثانية حاسمة على صعيد «اقتلاع» البنية العسكرية لـ «حزب الله» وربما كسْر شوكة إيران نفسها «لمرة أخيرة»، يتقدّم الاستحقاقُ الرئاسي تدريجياً سلّم الأولويات الداخلية وسط انطباعٍ بأن استقطاباً خفياً يدور بين:

- مَن يحبّذون «سدّ باب الريح» هذا في جلسة 9 يناير المقبل وقبل أن «يهبّ إعصار» دونالد ترامب مجدداً على البيت الأبيض والعالم ابتداءً من 20 يناير.

- ومَن يعتقدون أن من الأفضل ترْك الانتخابات، العالقة في شِباك الاستعصاء الداخلي والخارجي منذ نحو 26 شهراً، لِما بعد هذا التاريخ كي تكون الإدارة الأميركية الجديدة هي الرافعة لهذا الاستحقاق وللرئيس، سواء كانت الشخصية التي ستُنتخب مِن «الأسماء المستورة» حتى الساعة أو مِن «رأس لائحة» المطروحين حالياً مثل قائد الجيش العماد جوزف عون، خصوصاً أن الفترة الفاصلة عن 20 يناير تشي بأنها حَبلى بالمزيد من التطورات في الإقليم الذي يشي مسارُه العام بأنه يتّجه نحو «فصول عسكرية» أكثر دراماتيكية قد تطال إيران نفسها، بعدما بدأ تقليم أظافر الحوثيين تمهيداً لمحاولة «قطْع هذه الذراع»، كما لمّح بنيامين نتنياهو، في الوقت الذي يتم التعاطي مع «المسرح» المتعلّق بلبنان على أنه «حُسم» في ضوء الانكساراتِ المتعددة الوجه لـ «حزب الله» في حربه مع إسرائيل.

وعند هذا الاستقطاب تحديداً جاءتْ الخطوةُ المفاجئةُ التي قام بها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي أعلنت (مساء الأربعاء) كتلةُ «اللقاء الديموقراطي» التي يترأسها نجله النائب تيمور جنبلاط تأييدَ انتخاب قائد الجيش رئيساً في جلسة 9 يناير، وهو ما استوجب سلسلةَ تحرياتٍ، ليس فقط عن تأثيرات هذا الإعلان، الذي شكّل عملياً «قاطرةً» لمختلف داعمي العماد جوزف عون الذين «ينامون» حتى الساعة على هذا الخيار، بل عن خفاياه وخلفياته، وهل هي ذات أبعاد تكتية أو استراتيجية.

وتركّزت التحريات على مواقف اللاعبين الآخَرين ولا سيما القوى المسيحية الأساسية التي تَعتبر انها تملك حق «الكلمة الأولى» في ترشيح «الرئيس المسيحي»، وهو ما سارع «التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل إلى التعبير عنه بـ «انتفاضةٍ» في مواجهة هذا التطور عكست مناهضةً «ما فوق عادية» من «التيار العوني» لجوزف عون.

وفي «الأسباب الموجبة» التي دفعتْ جنبلاط، العائد من لقاء مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في باريس والذاهِب إلى «سورية الجديدة» للقاء أحمد الشرع، إلى البوح على نحو رسمي بدعم ترشيح العماد عون، انه رغم العَدّ التنازلي لجلسةِ انتخاب الرئيس في التاسع من الشهر المقبل، فإن الغموضَ مازال سيّد الموقف، وسط كلام كثير على طريقة «جعجعة بلا طحين»، وكَوْلَساتٍ تَفتقر إلى الوضوح، ومشاوراتٍ تشبه الدوران في المكان عينه.

من هنا، وبحسب دوائر مراقبة، جاءت خطوة جنبلاط أشبه بمحاولة لكسر المراوحة أو كسْر الصمت عبر التقدم بنقلةٍ إلى الإمام في انضاجِ ظروف المعركة الرئاسية من خلال تبني الخيار الذي يعتقد الزعيم الدرزي أنه الأكثر واقعية. فقائد الجيش مرشح جدي ويستند إلى قاعدة تأييد لا يُستهان بها في الداخل والخارج، وربما يكون الأكثر ملاءمة في المرحلة الجديدة التي تَحتاج إلى رجل اختُبر على مدى أعوام طويلة.

وفي تقدير هذه الدوائر أن جنبلاط الذي يحاذر في مقاربته للانتخابات الرئاسية أي خطوة ناقصة ويَحرص على تبني ترشيح شخصية تحظى بدعم أقله كتلة مسيحية وازنة، مارَسَ حقّه السياسي في الإعلان عن تأييد قائد الجيش من دون أن يعني ذلك محاولة فرْض رئيس على المسيحيين، وهو ربما أراد وضْع استحقاق التاسع من يناير على الطاولة بعدما جرتْ محاولاتٌ تحتها «لأخذ وردّ» بين الرئيس بري والنائب باسيل لم تتّضح خلاصاتُها، في الوقت الذي تستمرّ «القوات اللبنانية» في حِراكٍ من دون الكشف عن «الورقة المستورة» حيال مرشّحها الرئاسي.

باسيل

ولم تتفاجأ الدوائر عينها بردٍّ «أسرع من البرق» من باسيل على خطوة جنبلاط بإعلانه «مش الوزير السابق وليد جنبلاط يللي بيرشّح عن المسيحيين (...)»، ورأت ان الموقف الحانق لرئيس «التيار الحر» يعود إلى موقفه السلبي من قائد الجيش. فالكتلة البرلمانية المحسوبة على جنبلاط أعلنت رأيَها ولم تفرضه على أحد، وهي لم تسمّ للمسيحيين رئيساً «ولكن ماذا عن مفاوضاتِ باسيل نفسُه مع رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في(حزب الله)وفيق صفا في ما خص المرشح الرئاسي؟».

وفي موازاة ذلك، وعلى وقع اعتبار أوساط سياسية أن خطوة جنبلاط حرّكت واقعياً «المياه الراكدة» في استحقاقٍ تتسارع أيامه وكأنها «راكِضة» في ظلّ «كتْم» أوراق وأصوات لأكثر من هدف وحساب، ثمة مَن قرأ في الوسط المسيحي مفاجأةَ الزعيم الدرزي من زاوية توقيتها الذي «ربما يدلّ على قطبتها المخفية».

ووفق هذه القراءة، يصعب فصْلُ إعلان جنبلاط تأييد قائد الجيش عن محطتين:

- الاولى زيارته قبل أيام لباريس، التي تتقاطع مؤشرات عند أنها تدعم ترشيح سمير عساف الذي التقى أمس رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع في معراب.

- والثانية عن لقاء جنبلاط مع بري (يوم الاثنين) الذي يتحفّظ مع «حزب الله» عن قائد الجيش، والذي يطرح بحسب عارفين، أو يؤيد، أسماء يدرك الجميع أنها لا يمكن أن تمرّ عند قوى المعارضة وتعبّر عن استشعارِ الثنائي الشيعي بأنه مازال بإمكانه التحكّم بمسار الانتخابات الرئاسية بمعنى تعطيلها ريثما يأتي رئيس في كنفه، في الوقت الذي لم تَعُد التطورات المتلاحقة في لبنان وسورية، التي تركت ندوباً عميقة على واقع «حزب الله» ووزنه الداخلي وأخرجته من المعادلة الإقليمية والتي أسقطت حجر الزاوية في المحور الإيراني بخلْع نظام الرئيس بشار الأسد، تسمح لهذا الثنائي بأكثر من المساهمة في عملية الانتخاب عبر نعم أو لا لمرشّح أو آخَر تسمّيه المعارضة أو تَقاطُع قوى (ليست حليفة للثنائي)، وذلك انطلاقاً من عدم إمكان تَخطّي المكوِّن الشيعي في هذا الاستحقاق.

واعتبر أصحاب هذه القراءة، أن ارتداداتِ التأييد العلني من كتلة جنبلاط لانتخاب قائد الجيش، قد لا تصبّ بالضرورة في مَصلحته وخصوصاً أن ظروف وصوله لم تنضج بالكامل بعد، لافتين إلى أن أي خطأ تكتيتي في احتسابِ توقيت إعلان الدعم لقائد الجيش يمكن أن يستفيد منه سواء مَن يسعون في الخارج لإيصال عساف، أو مَن يرفضون في الداخل انتخاب العماد جوزف عون، ناهيك عن أن ذلك قد يسرّع دفْع باسيل إلى مزيد من التراجعاتِ نحو السير بأسماء من لائحة بري الذي لم يتلقّ حتى الساعة أي إشارةٍ من «القوات اللبنانية» تتعلق بالاسم أو الأسماء التي تراها مناسبة للرئاسة هي التي تتريّث في ذلك بانتظار أن تلمس أداءً من الثنائي الشيعي، عبر رئيس البرلمان، ينمّ عن اقتناعٍ حقيقي بأن الرئيس العتيد واستيلاده يجب أن يؤشرا إلى «لبنان جديد» في الشكل والمضمون.

وفي ظلّ هذه المناخات المتشابكة، تتزايد الضبابيةُ بإزاء مآلات جلسة 9 يناير، وسط أجواء باتت معروفة عن «لاءات» من أطراف معارضة وازنة لمرشّحين من لوائح متداولة واعتبار هذه القوى أن بالإمكان في هذه المرحلة طرْح خيارات رئاسية «في الوقت المناسب» تكون متطابقة مع «بروفايل» المرحلة الجديدة بتوازناتها الداخلية والخارجية، وإذا لم «تمرّ» فإن في اليد «ورقة رابحة» في النهاية وسيطون ممكناً التقاطع عليها وهي قائد الجيش.

فرنجية

وكان الملف الرئاسي شهد أيضاً موقفاً لرئيس تيار المرده سليمان فرنجية، الذي سبق للثنائي الشيعي أن دعم ترشيحه، أعلن فيه «اننا نريد رئيساً على قدر المرحلة في جلسة 9 يناير وإلا لن نشارك في إيصال رئيس لا يملأ الموقع المسيحي الأول و(نبقى برّا أشرف لنا)»، مؤكداً«أنا مستمر (في الترشيح) وإذا وصلنا في جلسة 9 الشهر واتفقنا على اسم على قدر المرحلة فلنمضِ وأنا مستعدّ للتنازل من أجل أحد يعبئ هذا المركز المسيحي الأول... نريد رجلاً بحجم رفيق الحريري مسيحيا لرئاسة الجمهورية».