أكتب وأنا الرّاسخ في مِنبر الدّفاع عن الحريات منذ ما يقارب الأعوام الثلاثين، وأكتب من موقع المُنخرط في عملية الإحياء اليومية للرأي والرأي الآخر من أجل بلورة مساحات مُشتركة للتّلاقي أو لتنظيم الاختلاف الذي هو ظاهرة صحّية. وأكتب وقد تعرّضت شخصياً لكمّ كبير من الهجوم في فترات مُختلفة لا بل فتحت أبواب مُؤسّساتنا الإعلامية لآراء انتقدتني في «بيتي» ولم أشعر بسوء كون الكويت جُبِلت على حرية الرأي ولأنني أردت لثقافة التعارض في المواقف أن تَتَشَكّل في مساراتها الصحيحة.

من هذه المُقدّمة، أنتقل إلى الجزم بأنّ غالبية الكويتيين يشعرون بالارتياح العارم نتيجة انسحاب من أُسمّيهم «عصابات» من جبهات وسائل التواصل الاجتماعي، واقتصار من بقي منهم على التخفّي بأسماء وهميّة تُشكّل قِلّة قليلة لا تُقارن بأيّ شكل من الأشكال بما كان يحصل سابقاً.

لماذا «عصابات» ولماذا تراجعت؟

رغم أن المُصطلح صعب الهضم في دولة كالكويت إلّا أنّ التسمية فرضها أصحابها ولم يفرضها أحد عليهم. الكويت تاريخياً دولة يعرف أهلها بعضهم. يعيشون معاً ويعملون معاً ويزرعون معاً قِيَماً تَجَدّدت في أجيالهم. ومع التوسّع والحداثة تغيّرت أمورٌ كثيرة لكن هذا الزرع أينع في غالبية الشبان والشابات الذين احتفظوا بالحدود اللائقة للسلوك والتصرّف والتعبير. لم يكن الرعيل الأول أو ما يُسمّى الآباء أو المُؤسّسون ذكرى عابرة في مرحلة تاريخية، بل هم أرسوا فعلاً قِيَم العيش المُشترك والعمل المُشترك والمصالح المُشتركة مع سقفٍ عالٍ من مفاهيم الاحترام وقنوات واضحة للتعبير وإيصال الصوت اتفاقاً أو اختلافاً.

مع الانفتاح أكثر وقبل الثورة التكنولوجية كان لبعض الإعلام التقليدي قفزات خارج إطار المألوف بسبب مصالح مُعيّنة أو تَوجّهات مُعيّنة إنما بقي الأمر في نطاق مُلامسة الخطوط الحمر من دون تجاوزها، ويذكر الكويتيون حتى ما بعد الألفية الثانية كيف كانت العلاقة بين الصحف والسلطة من جهة وبين الصحف وجمهور قُرّائِها من جهة أخرى.

بعد الثورة التكنولوجية وظهور وسائل التواصل التي نشأت عالمياً بغرض التعبير الاجتماعي أو المُساعدة في نقل مطلب أو الإضاءة على حدث ما وإغناء فكرة ما وتظهير صورة سياسيّة أو اقتصاديّة... ركب الموجة من ركب، وانقلبت القِيَم التي تعوّد الكويتيون عليها إلى منابر عامرة بالبذاءات والسّفالة والانحطاط والابتزاز والتعرّض للأعراض والإساءات الشخصية. كان الكويتي يسمع ويقرأ عن انتقاد مسؤول تسبّب في هدر ما أو تجاوز صلاحياته ويُتابع مسار النقد وصولاً إلى تغييره، وصار يسمع ويقرأ «شتائم» وبذاءات تِجاه هذا أو ذاك والطعن في ذِمّته وعِرضه وأسرته. كان الخلاف بين شخصين ينتهي بأن يشرح كلّ منهما مُبرّراته ومرئياته ويترك الحكم للناس ومحكمة الرأي العام أو السلطة أو القضاء، وصار يسمع ويقرأ عن سلوكيّاته الشخصية مع إرفاق صور تنتهك الخصوصية وغالبها مُفبرك.

الأمثلة كثيرة عن الذين فهموا خطأ حرية التعبير بمعزل عن القانون. فالإنسان الحرّ بالتعريف هو الإنسان المسؤول أيْ من يُدرك أن مسؤوليته تقتضي احترام القانون وحقوق الآخرين، إنما تبيّن لاحقاً من خلال «الجيوش الإلكترونية» التي تأسّست من قبل أطراف سياسيّة مُختلفة أنّ هذا الانحطاط كان مقصوداً لأنه يخلق بلبلة ويعطي انطباعاً بأنّنا غير مُؤهّلين للديموقراطية وحرية التعبير، ولأنه يضعف الاستقرار من خلال تأثيره المتزايد خصوصاً لدى المُتلقّين، ويخلق عداوات وصراعات شخصية داخل المجتمع من خلال التراشق أحياناً بالمذهبيّة والطائفيّة ما هدّد فعلاً الوحدة الوطنية.

اللافت في هذه الموجة الكبيرة التي تحكّمت بوسائل التواصل لسنوات أنّها في مَفاصلها المُهمّة كانت مُوجّهة من أطراف لديها حسابات سياسيّة وأطماع في السلطة وحقد شخصي وخُطط مذهبيّة وطائفيّة، وهذه الأطراف على تنوّعها كانت تُساوم على حسابات التواصل في الحسابات السياسية، فإن حقّقت بعض المراد انطفأ وتراجع صوت الجيش الإلكتروني الذي أصبح دوره في هذا الإطار شبيهاً بدور عصابات مأمورة تتقدّم وتتراجع. لكن فات من قاد هذه الجيوش أنّه من أجل موقف مصلحي سياسي أو سُلطوي أسّس لمنظومة مُشوّهة من مُغرّدين وأعطى نماذج لم تعرفها الكويت من الانحطاط والإسفاف.

كان همّهم مصالحهم الظّرفيّة أو الشّخصيّة وغلّفوها بشعارات مثل أنّ من يُسيطر على الإعلام والرأي العام يُسيطر على القرار. وفي النهاية تلطى هؤلاء خلف جدار الصمت خوفاً من المساءلة تاركين من تأثّر ونفّذ التعليمات يدفع الثمن وحده مُساءلة ومُحاكمات.

لم تخلُ كلمة لأمراء الكويت الكرام من عقدين وحتى اليوم من التّحذير مما يحصل في وسائل التواصل والتّنبيه بخطورته على المجتمع واستقراره. استشعروا الخطر وطالبوا بمسؤولية مُجتمعيّة تحدّ منه، إنّما كان الانحراف يشتدّ ويمتدّ ويصل حتى إلى فرض إرهاب على نواب للإعلان خارج قاعة عبدالله السالم عن مواقفهم من هذا الاستجواب أو ذاك، ومن هذه القضية أو تلك، أو على شخصيات لتجريحها وإبعادها عن المنصب، أو على فئات اجتماعية كريمة من طوائف وقبائل مُتعدّدة.

وفي الوقت نفسه، لم تتوقّف المُطالبات بأن تتصرّف السلطة تجاه هؤلاء كما تصرّفت السلطات في بريطانيا (منارة الحريات الإعلامية) مثلاً حيث اقتضت المصلحة الوطنيّة الحجب أو المنع أو المُلاحقة القانونية.

اليوم تراجعت الجيوش الإلكترونية وانكمشت «العصابات» لسبب واحد، هو أن السلطة الحالية قرّرت تفعيل القانون. بقيت قِلّة بأسماء وهميّة أغلبها من خارج الكويت ما زالت على النهج نفسه.

عاد كثيرون إلى هذا الفضاء الإلكتروني وهم أحرار في الكتابة عما يريدون من دون تجاوز القانون والخطوط الحمر. اعتراض، انتقاد، اقتراح، رأي، تعليق، تنبيه، تحذير... عادوا إلى الوظيفة الأساسيّة لهذه الوسائل، لكن المطلوب مِمّن يعنيهم الأمر الاستمرار في تفعيل تطبيق القانون على المُتجاوزين وصولاً إلى إنهاء هذه الظّاهرة المُنحرفة وعدم إنعاشها مُجدّداً حِفاظاً على سقف القِيَم الذي كاد ينهار.