انتهت المفاجآت العسكرية المتسارعة في سورية بسقوط الرئيس بشار الأسد ومغادرته دمشق من دون قتال، وبعد اتفاق مع الأطراف الرئيسية على رأسها تركيا وكذلك روسيا وإيران.

إلا أن المفاجآت في بلاد الشام لم تنته بل بدأت بعد مرحلة تغيير الحكم في محاولة لبناء دولة جديدة بمعايير مختلفة. إذ ما زالت سورية مقسّمة في الشمال الشرقي ولن تنسحب إسرائيل من أراضيها المحتلة، ولم تجتمع الفصائل لإيجاد سلطة جديدة، بل أُعلن محمد غازي الجلالي، رئيس وزراء الأسد، كممثل السلطة التي تدير البلاد. فماذا حدث وما يخبئ المستقبل؟

خسرت روسيا وإيران حليفاً وموقع قدم ثابتاً في بلاد الشام لتصبح يد تركيا هي العليا بعد أن دعمت إسطنبول القوات المهاجمة عسكرياً وخطّطت ورسمت مسيرتها وأداءها المضبوط في غرفة العمليات والأوامر التي أعطيت للقوات المتقدمة.

وقد نجحت بتحقيق جميع أهدافها في المناطق التي كان يسيطر عليها الجيش السوري، ولكن ليس في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية الموالية لأميركا في الشمال الشرقي والتي تمددت سلطتها.

وما حدث من سرعة في سقوط الأسد، هو أولاً النموذج الذي قدمه المهاجمون في المدن والقرى التي سيطروا عليها في أرياف إدلب ومدينة حلب وأريافها (عدا بعض التصرفات المتطرفة الفردية) وكذلك في حماة.

فابتعد المهاجمون عن «أسلوب وحشي» وحد العالم ضد القوات التي كانت تقاتل الجيش السوري منذ عام 2011 ليبدأ السقوط ككرة الثلج من دون مقاومة تذكر، مدينة بعد الأخرى، ليكتمل الاستسلام المنظم من دون إراقة دماء وبعد محادثات مطولة بين الراعيين الأساسيين تركيا وإيران وروسيا.

وأعلنت موسكو أنها على تواصل مع جميع الفرقاء في سورية ما يدل على مقاربة براغماتية لمن سيطر على الأرض في سورية، خصوصاً أن مناطق تواجد القوات الروسية في حميميم وقاعدتها الجوية والبحرية العسكرية لا تزال خارج القتال التي لم يقترب منها في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث الأقلية العلوية المسلحة.

الأكراد وسورية

لكن الأعمال العسكرية لم تنته. فما زالت المعارك مستمرة في ريف حلب الشمالي الشرقي بين القوات المدعومة من تركيا والقوات الكردية المدعومة من أميركا.

وتعتبر أنقرة ان هذه الميليشيات «ليست سورية»، كما قال وزير الخارجية حاقان فيدان، بل هي تنظيم «بي كي كي» (على لائحة الإرهاب التركية والدولية) «أتى أفراده من دول مختلفة وتجمعوا في سورية ويجب القضاء عليهم جميعاً».

إلا أن هذه ليست وجهة نظر أميركا التي تعتبر قائد غرفة العمليات أحمد الشرع - أبومحمد الجولاني - «إرهابياً» وكذلك تعتبر التنظيمات الكردية «بي كي كي» إرهابية، هي نفسها التي تدافع عن الوجود الأميركي الذي أيضاً يمنع أي هجوم عليها ويشكل لقواتها غطاء جوياً عندما تتقدم أو تتعرض للهجوم.

في اليومين الأخيرين، تقدّمت القوات الكردية وسيطرت على دير الزور والرقة. وهذا ما لن تقبل به القيادة الجديدة، ما سيخلق معضلة دائمة، خصوصاً أن السلة الغذائية والنفطية والغازية تقع أيضاً تحت سيطرة الأكراد في الشمال الشرقي.

وهذا من الممكن أن يفرض فيديرالية، خصوصاً أن للأكراد والعلويين والدروز خصوصية في سورية. إلا أن العداء التركي للأكراد لن يسمح بتواجد دويلة لهم بهذه السهولة، كما هي حال كردستان العراق.

توحيد التنظيمات

توحدت التنظيمات المتعددة تحت قيادة «ردع العدوان» وضمت جيش العزة وجيش الأحرار وفيلق الشامية والقوات المشتركة وهيئة تحرير الشام وحركة نورالدين زنكي وفيصل السلطان مراد وأنصار التوحيد وصقور الشام وأحرار الشام وكتائب سليمان شاه وكتائب الحمزة وكتائب غرباء التركستان. وأقوى وأكبر هؤلاء هم أحرار الشام وهيئة تحرير الشام.

وقد بدأ الطلب بتشكيل «مجلس انتقالي وطني» جامع لكل أطياف الثورة بعد أن أعلن الجولاني عن بقاء المؤسسات بيد رئاسة الوزراء الحالية، لعدم تقدير الفصائل بسقوط سريع في كل المدن الرئيسية التي كانت ما زالت تحت سيطرة الجيش السوري.

ومن غير المعلوم كيف ستدار الدولة في الأسابيع القادمة ومن سيوجهها نحو تشكيل حقوقيين من جميع الأطراف لدراسة دستور جديد معدل وإجراء انتخابات نيابية وكيف سيكون الحكم الجديد وبيد من إذا توحدت هذه الفصائل المتنوعة وذات المشارب المتعددة.

إيران وحلفاؤها

مما لا شك فيه أن خروج سورية من منطقة نفوذ «الجمهورية الإسلامية» ضربة كبرى وجهت لإيران. فقد أنفقت عشرات المليارات منذ بدأت الحرب عام 2011 لدعم الأسد خصوصاً بعد فرض العقوبات الغربية القاسية على سورية لأعوام طويلة.

كذلك خسرت إيران الآلاف من ضباط الحرس الثوري ومن ضباط وعناصر «حزب الله» وحلفاء إيران الآخرين منذ أن سيطرت «داعش» على سورية وحتى بعد سقوطها. وأنشأت إيران مخازن أسلحة ضخمة في أنحاء متعددة في سورية - تعمل إسرائيل على تدميرها حتى بعد سقوط الأسد.

كذلك التزمت بإرسال ناقلة إلى ناقلتي نفط شهرياً لتغطية الاحتياجات النفطية السورية.

لكن أهم ما خسرته طهران، هو الممر الرئيسي للسلاح الذي كانت ترسله إلى «حزب الله» ليقاتل فيه إسرائيل. وهذا خط الإمداد، أو الرئة الأساسية لسلاح المقاومة اللبنانية، سيكون له تداعيات كبيرة إذا لم يستمر، إلى حين تعيد القيادة الإيرانية حساباتها وسياساتها في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن مني حليفها في لبنان بضربة قاسية أضعفته، ولم تنهه، إذ انه احتفظ بقوات مشاة وقوات خاصة تعد بالآلاف، لم تتأثر كثيراً بالحرب على لبنان.

وهذا يعني أن إسرائيل - التي تقدمت في القنيطرة لتأمين منطقة عازلة أمام الجولان المحتل لتقول بان لا إعادة للأراضي السورية المغتصبة - من المحتمل أن رغبتها بالانسحاب من لبنان قد انخفضت أو أن احترام وقف إطلاق النار أصبح مسألة تفسير متعدد، خصوصاً إذا ما حوصرت المقاومة وقلت مواردها المادية والعسكرية لمدة طويلة.

لذلك فإن لسقوط سورية تداعيات لم تشهد مفاعيلها المنطقة بعد. فهي بداية لشرق أوسط جديد ليس على شاكلة غوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي السابقة التي أعلنته عام 2006 أثناء الحرب الثانية على لبنان.

وليس مثل الذي أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أراد إنهاء «حزب الله» والتوجه نحو سورية والعراق ليرسم خريطة جديدة. بل هو شرق أوسط لم يرسم بعد ولا يستطيع أحد التنبؤ بشكله الجديد وديناميكيته، لاسيما أن لبنان خسر جولة مع إسرائيل وليس الحرب وان المستقبل ما زال غير واضح المعالم لمن سيقود سورية وتداعياته على لبنان.