شنت قوات المعارضة السورية، بقيادة «هيئة تحرير الشام» و«أحرار الشام» وبدعم من الإسلاميين، هجوماً كبيراً في ريفي إدلب وحلب، وقلب مدينة حلب، واستولوا على مساحات كبيرة من الأراضي، في تقدم سريع، بما في ذلك طريق الدولي M4 وM5 دمشق - حلب، وحلب - اللاذقية وسراقب.
ويسلط التقدم السريع المفاجئ، الضوء على عجز الجيش السوري عن الدفاع عن هذه الأراضي بشكل فعال، مما يخلق فرصة لحلفاء تركيا لتحقيق أهدافها.
وأطلقت «هيئة تحرير الشام» على هجومها اسم «ردع العدوان»، ووصفته بأنه رد على القصف المدفعي من قبل القوات السورية والذي أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين في إدلب.
إن توقيت الهجوم في حلب وإدلب، يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين الديناميكيات الإقليمية والإستراتيجيات الجيوسياسية التي تمتد إلى ما هو أبعد من الصراع السوري نفسه.
ويتزامن الهجوم مع المنافسة الجيوسياسية الأوسع بين إيران وحلفائها وتحالف القوى المعارضة لنفوذها الإقليمي.
فواحد تلو الآخر، يضعف أعضاء «محور المقاومة»، فيما يهدف هذا الهجوم في سورية، إلى إعادة تشكيل توازن القوى بشكل كبير في شمال البلاد وخارجها.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أصدر أخيراً تحذيراً صارماً للرئيس السوري بشار الأسد من «اللعب بالنار».
وتؤكد هذه الرسالة، على المخاوف الأوسع التي تشعر بها إسرائيل في شأن انتشار ونشاط إيران و«حزب الله» في سورية. ويشير التحذير إلى أن إسرائيل تنظر إلى أي تعزيز لموقف الأسد ـ خصوصاً بدعم من طهران والحزب، باعتباره تهديداً مباشراً لأمنها. ويتماشى توقيت التحذير مع دفع المعارضة السورية إلى حلب، مما يشير إلى تداخل إستراتيجي قد يفيد إسرائيل من خلال زعزعة استقرار حكومة الأسد بشكل أكبر.
ويتزامن الهجوم أيضاً مع الجهود الإسرائيلية المستمرة لتعطيل طرق الإمداد اللوجستية والأسلحة لـ«حزب الله»، والتي تمر في المقام الأول عبر سورية.
وتعتبر هذه الطرق بالغة الأهمية لقدرة الحزب على تجديد ترسانته والحفاظ على قدراته العملياتية، خصوصاً خلال التوترات المتصاعدة مع إسرائيل في جنوب لبنان بعد الحرب الأخيرة.
ومن خلال إضعاف سيطرة الأسد بشكل غير مباشر على سلاسل الإمداد من خلال تقدم المعارضة، قد تهدف إسرائيل إلى خلق تحديات إضافية للحزب، مما قد يحد من قدرته على الحفاظ على مقاومته ضد القوات الإسرائيلية.
لعبت إيران دوراً محورياً في دعم حكومة الأسد منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011، ونشرت الموارد والأفراد ودعم الميليشيات لمنع انهيار الدولة. وتنظر طهران إلى سورية باعتبارها حجر الزاوية في «محور المقاومة»، الذي يربط إيران بـ «حزب الله» في لبنان وغيره من الجماعات المتحالفة في المنطقة.
ومع إعطاء إسرائيل الأولوية علناً للجهود الرامية إلى مواجهة النفوذ الإيراني في كل أنحاء الشرق الأوسط، فإن عودة المعارضة المفاجئة قد تكون بمثابة تعطيل تكتيكي للعمق الإستراتيجي لإيران في سورية. إذ إن الهجوم لا يصرف انتباه الأسد فحسب، بل يجبر طهران أيضاً على إعادة ضبط دعمها في ظل التحديات المتزامنة في قطاع غزة ولبنان وسورية.
إن التوقيت جدير بالملاحظة بشكل خاص بعد الضربات الشديدة التي وجهت لـ«حماس» في غزة. وفي حين لم تحقق إسرائيل كل أهدافها في الصراع، فقد ألحقت أضراراً كبيرة بالبنية التحتية العملياتية واللوجستية للحركة.
ومع تعرض غزة لضغوط هائلة، تحول انتباه إسرائيل جزئياً إلى جبهات أخرى في إستراتيجيتها الإقليمية مما يشير إلى أن أي عضو في «محور المقاومة» ليس بمنأى عن العزلة الإستراتيجية والاستهداف.
علاوة على ذلك، فإن رفض الأسد لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان يقوض آمال تركيا في تحقيق أهدافها في سورية من خلال القنوات الدبلوماسية وقد يكون له عواقب وخيمة بالفعل، وقد يعمل كمحفز لتحركات أنقرة في إدلب وحلب.
كانت طموحات تركيا الطويلة الأمد في شمال سورية، بما في ذلك تأمين السيطرة على مناطق رئيسية، وحلب، على رأس قائمتها دائماً. كما يهدف أردوغان إلى تهيئة الظروف لعودة ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، إلى بلادهم، خصوصاً في ظل الضغوط السياسية المحلية في شأن هذه القضية.
من خلال تطبيع العلاقات، تأمل أنقرة في تأمين قبول الأسد الضمني للسيطرة التركية على مناطق معينة في الشمال، بما في ذلك إدلب وحلب. وتؤكد تركيا أن محادثات أستانا تهدف إلى تهدئة التوتر في المنطقة، بما في ذلك حلب، تحت ستار استقرار المنطقة. ويشير رفض الأسد إلى عدم رغبته في الرضوخ، مما قد يدفع أنقرة على الأرجح إلى اللجوء إلى حلفائها في سورية وتصعيد الجهود لتحقيق هذه الأهداف من جانب واحد.
كانت تركيا تشكو من عدم التوصل إلى نتائج من اجتماعات أستانا. فقد أسست المحادثات التي بدأت في 2017، والتي تيسرها روسيا وإيران وتركيا، مناطق خفض التصعيد في سورية، بما في ذلك مناطق في إدلب وحلب.
وكانت هذه المناطق تهدف إلى الحد من الأعمال العدائية ولكنها كانت في كثير من الأحيان بمثابة تدابير موقتة، حيث استعادت الحكومة السورية في نهاية المطاف معظم المناطق باستثناء إدلب.
ويشير الهجوم الحالي إلى أن جماعات المعارضة تستفيد من الهدوء النسبي لهذه الاتفاقيات لإعادة تجميع صفوفها وشن هجمات منسقة. فالسيطرة على مناطق حاسمة في إدلب وحلب من شأنها أن تعزز سيطرة تركيا على شمال سورية.
ومن خلال دعم مكاسب المعارضة، تهدف تركيا إلى إضعاف قبضة الأسد على هذه المناطق، مما يزيد من تعقيد جهوده لإعادة تأكيد السيطرة على كامل البلاد.
ربما فسرت أنقرة رفض الأسد لقاء أردوغان، كإشارة لتكثيف هذه الجهود، في حين يُنظر إلى الأسد على أنه معزول دبلوماسياً. ويشير توقيت الهجمات إلى أن تركيا تستفيد من موارد الأسد المحدودة وتركيزه المنقسم.
وتتعامل الحكومة السورية مع الضربات الإسرائيلية على الطرق اللوجستية والبنية الأساسية المرتبطة بالدعم الإيراني، ولا سيما نقل الأسلحة إلى «حزب الله». ومع انشغال روسيا بأوكرانيا وانخراط الحزب في صراع مع إسرائيل، فإن دعم الأسد متعدد الجبهة يضعف، مما يجعل شمال سورية هدفاً أكثر عرضة للخطر.
يمكن لأنقرة أن تضع الهجمات في إطار أفعال مستقلة من قبل مجموعات المعارضة، وتجنب اتهامات العدوان المباشر. وتتجنب تعريض قواتها للصراع المباشر مع الجيش السوري أو المخاطرة بالانتقام من حلفاء الأسد، مثل إيران.
إضافة إلى ذلك، فإن المكاسب التي حققتها القوات الموالية لأنقرة (نورالدين زنكي، والجماعات الجهادية الأوزبكية والتركمانية المشاركة في الهجوم) توافر لأردوغان أوراق مساومة في أي مفاوضات مستقبلية مع دمشق.
من خلال دعم هجوم المعارضة، تسعى أنقرة إلى قبول الوجود التركي طويل الأمد في الشمال. وقد تكون أيضاً محاولة لإعادة تحديد حدود مناطق خفض التصعيد التي أنشئت بموجب إطار أستانا. من المرجح أن تسعى تركيا إلى تأمين منطقة عازلة أعمق في الأراضي السورية.
إن الهجوم الأخير هو خطوة محسوبة، تستغل الأحداث الإقليمية والاتفاقيات التاريخية لاستعادة الأراضي الإستراتيجية. ستؤثر النتيجة بشكل كبير على المشهد العسكري والسياسي في سورية، مما قد يغير مسار الصراع الطويل.
ومع ذلك، فإن نجاح إستراتيجية أنقرة يعتمد على استدامة مكاسب المعارضة وما إذا كان الأسد قادراً على تعبئة الموارد لشن هجوم مضاد.
في الواقع، فإن طول مدة سيطرة المعارضة على الأراضي التي تم الاستيلاء عليها حديثاً يعتمد على قدرتها على تحصين المواقع ومستوى الدعم الخارجي الذي تتلقاه. ونظراً للجهود المتوقَّعة للجيش السوري لاستعادة الأرض المفقودة، فإن الوضع لا يزال غير مكتمل. وقد تؤثر الديناميات المتغيرة على الأرض على مواقف المعنيين الإقليميين والدوليين، بما في ذلك تركيا وروسيا، في اجتماعات أستانا المستقبلية.