منذ حوالي 43 عاماً تأسس مجلس التعاون لدول الخليج العربية وكانت البداية في عام 1981، ابان عالم ثنائي القطبية. تخلل العقود الخمسة الماضية تحديات كبيرة تمثل أعظمها في الحرب الإيرانية - العراقية، ثم الغزو العراقي الغاشم على الكويت، ومباشرة بعد ذلك سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم أتى الغزو الأميركي للعراق الذي أعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والغزو الأميركي لأفغانستان، ثم حلت تحديات داعش وأخواتها الإرهابية، وتداعيات الربيع العربي، والحرب في اليمن، وأخيراً اعتداءات الكيان الصهيوني على فلسطين ولبنان. وخلال العبور من بين تضاريس تلك الصعاب التاريخية دفعت دول مجلس التعاون جزءاً كبيراً من مقدراتها المالية والبشرية والبيئية لكنها حافظت على استقرار منظومتها وعبرت بسلام.

في الحقبة المقبلة تحديات بالغة من نوع آخر تتمثل في «التهديدات الفضائية»! في النظام الدولي السابق ومنذ تشكيل الدولة الحديثة في عام 1648 بعد معاهدة وستفاليا، كان مفهوم السيادة مرتبطاً بالأرض، ترتيباً على أن مفهوم الدولة يقوم على الإقليم والشعب والسلطة التي تقوم بدورها في الحماية من التدخل الخارجي. لذلك أتى مفهوم التدخل الخارجي مقروناً بالسيادة وواجب السلطة في صيانته. ولذلك أيضاً جاء على ذكر قدسية عدم التدخل في الشأن الداخلي كمبدأ عام في المعاهدات الدولية وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة.

في عصرنا الحالي والمستقبلي مفهوم السيادة سيكون أكثر ارتباطاً بالفضاء، أي قدرة الدولة على حماية فضائها. والمقصود هنا بالفضاء هو العالم الافتراضي الذي تسيطر عليه التكنولوجيا المتقدمة خاصة في مجال الاتصالات والمعلومات. فالحروب أصبحت إلكترونية في جيلها الجديد، والردع أيضاً إلكتروني قد انتقل من مفهومه التقليدي القائم على المقدرة الثأرية بالسلاح.

ومن جانب آخر، فالاقتصاد العالمي غزته التجارة والتبادلات والعملات الإلكترونية. وحتى الإرهاب أصبّح إلكترونياً حيث تصاعدت وتيرة الهجمات السيبرانية التي تقود أكثرها عناصر غير حكومية.

الإعلام هو الآخر لم يعد بيد الحكومات ولا المؤسسات الحكومية، بل هو في قيد المؤسسات العالمية الالكتروفضائية والأفراد القادرين على توظيفه في المجالات كافة خصوصاً السياسية. ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك حديثاً ساخناً ومتصاعداً عن الهوية الإلكترونية والدولة الافتراضية.

إذا كانت الدول والكيانات السياسية هي التي تهدد سيادة الدول في المرحلة المقبلة فالمؤسسات التكنولوجية خصوصاً العاملة في الفضاء الرقمي هي فاعل جديد له طبيعته وقوته وتكتيكاته وإستراتيجياته بشكل يخالف العقل التقليدي للدول.

وفي هذا السياق، ستتغير المعادلات والمفاهيم الخاصة في الأمن القومي والتحالفات وبناء الإستراتيجيات. وستدخل برمجيات الذكاء الاصطناعي في محاكاة السيناريوهات والقرارات التي تتخذها المؤسسات الرسمية والحكومات. ولا شك بأن الدبلوماسية هي الأخرى ستتأثر وسيغلب عليها ما يطلق عليه بالدبلوماسية الرقمية. وكل ذلك التصاعد في مجال الفضاء الإلكتروني لا يمكن أن يتم التعامل معه وفقاً للمواثيق والمعاهدات المعمول بها، ما يستدعي إبرام معاهدات ومواثيق وبروتوكولات دولية جديدة تنسجم مع هذا التطور التكنوسياسي العظيم.

في الحقبة المقبلة للنظام الدولي الناشئ كل شيء سيكون في الفضاء الافتراضي، والتكنولوجيا ستكون الفيصل في الحكم على القوي والضعيف. الدولة القوية هي الدولة التي تمتلك بنية تحتية إلكترونية تواكب التطورات، ومنتجة لها وليست مستهلكة ومستوردة لها.

ومن هذا المنطلق، أعتقد بأن دول مجلس التعاون الخليجي وبما تملكه من مقدرات مالية وبشرية تستطيع أن تكوّن وتصنع أكبر مجمعات التكنولوجيا الحديثة والدقيقة. وتستطيع دول هذه المنظومة أيضاً ان توطن الصناعات التكنولوجية وتدعم قدراتها من خلال تشجيع الابتكار في هذا القطاع.

وفقاً لهذا الاستشراف للمستقبل القريب نأمل أن يرتقي التعاون الخليجي ومن خلال منظومة المجلس، والشركات التي يمكن نسجها مع الدول المتقدمة في الشرق والغرب، في تبني مشاريع مشتركة تقود دول وشعوب المنطقة بسلام إلى تخطي المرحلة الأخطر في تاريخ البشرية.