فيما كان لبنان «اليوم التالي» لوقف النار مُنْهَمِكاً بـ «معركة جانبية» عنوانها «انتصار أو انكسار» حزب الله في الحرب الأكثر توحُّشاً التي وضعت البلاد «بين أنياب» اسرائيل، أمعنتْ الأخيرةُ في تظهيرٍ «عن سابق تَصَوُّر وتصميم» ليدها العليا في مرحلة الستين يوماً الانتقالية وما بعدها على صعيد ضمان تنفيذ مندرجاتِ اتفاقٍ لا يترك مجالاً للشك في أنه يضع الوطن الصغير (والحزب) بين خياريْ إما إنهاء «الوظيفة الإقليمية» لمنطقةِ الجنوب كجبهةٍ أمامية للمحور الإيراني و«الحلقة الأخيرة والأقوى» في قوس نفوذ طهران المترامي حتى حدود اسرائيل، وإما إحياء تل أبيب «كوابيس» أكثر من شهرين فُتح خلالهما «صندوق باندورا» وفظائعه وذلك على قاعدة «إن عُدْتُم (إلى الوضعية العسكرية لِما قبل 27 نوفمبر) عدنا وبقوة أكبر».
ومن قَلْبِ غبار سجالات «الربح والخسارة»، والتي تستنبط «تَطاحُناً سياسياً» على الأبواب تحت شعار «لا سلاح بعد اليوم إلا سلاح الشرعية» والذي بدأت قوى في المعارضة ترفعه، وفي الوقت الذي كان الموفد الرئاسي الفرنسي جان - إيف لودريان يطلّ كـ «ناظِرٍ» للإشراف السياسي على اتفاق وقف النار و«ملحقه» الدستوري الضمني أي الإفراج عن الانتخابات الرئاسية التي أعطاها رئيس البرلمان نبيه بري دفعاً بارزاً بتحديد 9 يناير 2025 موعداً لجلسةٍ أوحى بأنها محكومة بتصاعُد «الدخان الأبيض»، ووعد بأن يدعو «سفراء الدول لحضورها»، كان الميدانُ في «اليوم الثاني هدنة» ينطبع، إلى جانب مضيّ آلاف المهجّرين في «رحلة العودة» إلى البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، بفرْض اسرائيل نَسَقاً عسكرياً ذا دلالات على خطيْن، بدت معهما وكأنها تتعمّد خرق الهدنة في الوقت الفاصل عن إنجاز «المراسيم التطبيقية» للآليات التي نصّ عليها الاتفاق، وذلك لهدفيْن:
«المنطقة العازلة»
- الأوّل فرْضُ ما يشبه «المنطقة العازلة» بالنار (بعمقٍ قد يصل الى 6 كيلومترات) يُمنع أي عودةٍ للسكان إليها، قبل أن يدخلها الجيش اللبناني من ضمن مهمة واضحة هي جعْل جنوب الليطاني «ابتداءً» منطقة خالية من «حزب الله» سلاحاً ومقاتلين وبنية تحتية ومنشآت عسكرية وتدميرها أو نقلها الى شمال الليطاني، على أن يقوم خلال ستين يوماً وفي شكلٍ تدريجي بانتشارٍ، كلما شمل رقعة ينسحب الجيش الاسرائيلي من بلدات ونقاط احتلّها خلال المواجهات.
وفي هذا الإطار يأتي القَصْفُ المتكرر للعديد من البلدات المحاذية للخط الأزرق واستهداف تجمّعات لمواطنين في عدد منها، ما أدى الى وقوع جرحى (كما في الطيبة ومركبا التي تم استهداف سيارة فيها من مسيّرة)، بالتوازي مع تحذير الجيش الإسرائيلي سكان 10 بلدات في الجنوب من العودة إليها أو الى اي قرية تقع جنوبها، كما الحظْر المتجدد على «التنقل أو الانتقال جنوب نهر الليطاني ابتداء من الساعة الخامسة مساء (17:00) وحتى الساعة السابعة صباحاً (07:00)».
- والثاني: إظهار «العين الحمراء» أكثر حيال مرحلةِ «الهدنة التجريبية» التي تُعدّ اختباراً حقيقياً للبنان الرسمي وحكومته وجيشه لجهة القدرة على تنفيذ دقائق الاتفاق الذي سيواكب المجتمع الدولي تطبيقه «خطوة خطوة»، كما إرساء «قواعد التصرّف» في ما بعدها بإزاء أي انتهاكٍ لشرطيْ «تفكيك كل المنشآت غير المرخصة القائمة والتي تعمل في إنتاج الأسلحة والمواد ذات الصلة، ومنع إنشاء مثل هذه المنشآت في المستقبل» و«تفكيك كل البنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة كل الأسلحة غير المرخص بها والتي تتعارض مع هذه الالتزامات» مع مراقبة لصيقة لكافة المعابر والمرافق لمنع معاودة تسليح «حزب الله».
وفي «ترجمة مبكّرة» لـ «حق حرية الحركة» في لبنان للتصدّي لأي «تهديد وشيك» أو في طور التحوّل خطراً أكبر، الذي تلقت اسرائيل ضمانات أميركية مكتومة في شأنه في ملحقٍ جانبي «بالحبر السري» بينها وبين الولايات المتحدة، وذلك ما لم تتم معالجة الانتهاك المزعوم من قِبل الجيش اللبناني بعد «توجيهه» إلى موقع الشكوى من اللجنة الخماسية (بقيادة الولايات المتحدة)، هاجَمَ الطيران الحربي أمس منطقة صيدا (بين البيسارية وتفاحتا) وسط زعم الجيش الاسرائيلي أنه «تم رصد نشاط إرهابي داخل موقع لحزب الله كان يحتوي على قذائف صاروخية متوسطة المدى في جنوب لبنان. وتم إحباط التهديد من خلال غارة لطائرات حربية».
«ترسيم بالنار»
وإذ ترافق ذلك مع تأكيد الجيش الاسرائيلي أنه «منتشر في منطقة جنوب لبنان ويعمل ويُحْبِط كل خرق لاتفاق وقف النار»، جرى التعاطي مع هذا الاستهداف الذي وَقَعَ شمال الليطاني، على أنه محاولةُ «ترسيم بالنار» لحدود الاتفاق «العابرة» لجنوب الليطاني، وفق مضامين وقف النار وبنوده ذات الصلة بتفكيك المنشآت العسكرية لحزب الله ومواقع الإنتاج والبنى التحتية ومصادرة الأسلحة والتي صيغت بلغة «بدءاً من جنوب الليطاني» ومن ضمن روحية، عبّر عنها بوضوح الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، الذي سيكون لفترة رئيس لجنة الإشراف والرقابة على تنفيذ الاتفاق، تقوم على معالجة كل الوضعية العسكرية لـ «حزب الله» خارج الدولة، وليس فقط جنوب الليطاني.
ولم يكن عابراً في سياق متصل، توالي الكشف عن «بنود سرية» في كتاب الضمانات الأميركية التي مهّدت لاتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل وخصوصاً التي تتعلق بإيران، وسط حديث إعلام اسرائيلي عن «التزام أميركي بالتعاون مع إسرائيل في شأن الملف الإيراني وتعهُّد واشنطن بمنع طهران من زعزعة استقرار المنطقة، والتصدي لأي محاولات إيرانية لتوسيع نفوذها في لبنان، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائها».
وحرصت القناة 12 الاسرائيلية على تظهير موضوع «حرية الحركة في لبنان» بعد «ان تبلغ تل ابيب واشنطن في الوقت المناسب» (قبل التحرك) على «أن تكون كل الإجراءات الإسرائيلية متطابقة مع القانون الدولي، لتقليل أكبر قدر ممكن من الضرر الذي سيلحق بالمدنيين أو البنية التحتية المدنية»، وكذلك الحديث عن أن «الكتاب» ورد فيه أيضاً «أن دور الولايات المتحدة كرئيسة لآلية الرقابة، يجعلها تقوم بقيادة وتوجيه القوات المسلحة اللبنانية لمنع الانتهاكات وتوفير مراقبة فعالة».
وأشارت القناة إلى ما قاله وزير إسرائيلي اطلع على الوثيقة، ووصفها في مجلس الوزراء بأنها «إنجاز عظيم»، لأنها تضمن إدخال الولايات المتحدة إلى لبنان بحكم الأمر الواقع، باعتبارها الطرف المسؤول الرئيسي في تنفيذ ومراقبة الاتفاق.
وكان هوكشتاين أكد في تصريحات صحافية «ان (حزب الله) انتهك القرار 1701 لأكثر من عقدين وإذا انتهك القرارات مجدداً سنضع الآليات اللازمة لذلك» معلناً «أن لبنان أمام وقف دائم للنار، وليس فقط أمام هدنة لستين يوماً، وكل ما في الأمر أن مهلة الستين يوماً هي للجيش اللبناني للانتشار في الجنوب»، ومؤكداً أن «الولايات المتحدة لن تسمح لجنوب لبنان أن يكون بنية تحتية للإرهابيين، والجيش اللبناني سيكون مسؤولاً عن الأمن والنظام (...) وإذا أشارت إسرائيل لوقوع خرق أمني، فسيعمل الجيش اللبناني فوراً على التحقق منه والتعامل معه كي لا يصبح خطراً أكبر».
وأوضح أن واشنطن لديها فريق يصل (خلال ساعات) إلى المنطقة ليجري مشاورات للحفاظ على تنفيذ الاتفاق، مبينا «أن على الجيش اللبناني التأكد من انسحاب حزب الله من المناطق التي نص عليها الاتفاق، وعلى الجميع التعلم من بعض أخطاء 2006 بتنفيذ الاتفاق كاملا».
وإذ رأى أن الاتفاق «نجح في تأمين الالتزام من حزب الله بالابتعاد إلى ما وراء نهر الليطاني ووقف إطلاق الصواريخ، مع نشر قوات الجيش اللبناني وعودة السكان إلى الجنوب تدريجاً» وهذا أفضل «من منطقة عازلة ستتطلب بقاء إسرائيل في لبنان كقوة احتلال، وهو أمر لن تقبله أي دولة ذات سيادة»، أشار إلى أن الإسرائيليين طلبوا من المواطنين اللبنانيين عدم الاقتراب من مناطق وجودهم لتجنب أي صراع، مشدداً على «ان على اللبنانيين انتخاب رئيس وتشكيل حكومة تعكس رغبتهم في التغيير بعيداً عن حزب الله وعلى الأخير وبقية الأطراف احترام دولة القانون (...) ووقفُ النار فرصةٌ للبنان للنهوض وعلى حكومته قول إنها ستفرض سيطرتها على كل البلاد وليس فقط في الجنوب، وهذه لحظة تمنح لبنان فرصة لتأكيد سيادته ليس فقط ضد غزاة خارجيين بل داخليين أيضاً». وأضاف إن «ملف اسرى (حزب الله) لم يتم تغطيته في المفاوضات، وسنرى كيفية حلّ المشكلة».
وفي الوقت الذي أكد نائب «حزب الله» حسن فضل الله ان قرار الحرب «بيد العدو الاسرائيلي وعندما يعتدي علينا سنقاومه، ولن يكون هناك اي مشكلة بين المقاومة والجيش. ونحن نريد أن تبسط الدولة سلطتها على كل لبنان»، كان بارزاً توجيه القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي رسالة إلى أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم قال فيها أنّ اتفاق لبنان هزيمة استراتيجية لإسرائيل.
وأشار سلامي إلى أنّ «حزب الله انتصر وفرض وقف إطلاق النار على إسرائيل التي عجزت عن تحقيق أهدافها»، وقال:«قبول إسرائيل وقف النار رغم ضرب الحزب أهدافاً استراتيجية درس لداعميها»، لافتاً إلى أنّ وقف النار في لبنان يمكن أن يكون بداية لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة.
بوحبيب وعراقجي
وفي إطار متصل، تلقى وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بوحبيب، اتصالاً من نظيره الإيراني عباس عراقجي، الذي أعرب عن ارتياح ودعم إيران لوقف النار في لبنان.
وإذ أكد عراقجي «دعم الجيش اللبناني وتعزيز قدراته وعديده كي يتمكن من حفظ الأمن والاستقرار جنوب نهر الليطاني»، توافق الوزيران أيضاً، بحسب المكتب الإعلامي لبو حبيب «على أهمية استقرار وبسط سلطة الدولة السورية على كامل أراضيها».
انتخاب رئيس للجمهورية
وفي حين كانت الأحداثُ المتدحرجة في حلب تطرح علامات استفهام حول توقيتها وإمكان ارتباطها، في جانبٍ منها، بضغوط على النظام السوري لفكّ دور بلاده كممرّ لنقل السلاح إلى «حزب الله»، وسط تأكيد أن هذا سيكون جزءاً من الجهود لضمان عدم معاودة تسليح الحزب، فاجأ بري الجميع أمس بتحديد 9 يناير المقبل موعداً لجلسة جديدة، ربما تكون الأخيرة، لانتخاب رئيس بعد انقطاع لنحو 19 شهراً (عن آخِر جلسة).
وإذ جاء هذا الإعلان في مستهل جلسة التمديد لرتبة عميد وما فوق في كل الأسلاك الأمنية لسنةٍ، ما عنى التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون لعام إضافي، فإن بري وضعه في سياق «أنني آليتُ على نفسي أنه فور وقف النار سأحدد موعداً لجلسة لانتخاب رئيس، وجلسة 9 يناير ستكون مثمرة وأعطينا مهلة شهر للتوافق في ما بيننا، وسأدعو سفراء الدول لحضورها».
واكتسب هذا التطور أهميته لأنه ترافق مع زيارة لودريان لبيروت ولقائه كبار المسؤولين والقادة السياسيين، هو الذي أصرّ لبنان (والولايات المتحدة) على أن تكون بلاده جزءاً من الآلية الخماسية (تضم ايضاً لبنان واسرائيل واليونيفيل وأميركا) للإشراف على تطبيق وقف النار والقرار 1701 كاملاً، وسط أسئلةٍ حول هل يكون «تَراجُع» طهران الواضح الذي أمْلى عليها السير بوقف نارٍ بشروطٍ قاسية، ستشرف عليها واشنطن، وتعني واقعياً «سحب حزب الله ولبنان من وحدة الساحات» وتالياً طيّ الدور الإقليمي للسلاح، أنها ستكمل بهذا المسار في الأزمة الرئاسية وتُنهيها قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، كـ «هدية حسنِ نيةٍ ثانية» وربط نزاع إيجابي معه، وهو ما يمكن أن يجعل قائد الجيش صاحب حظوظ مرتفعة، أم ستصرّ على التشدّد تحسباً لجعل بنيامين نتنياهو إيران «أولويته التالية» فيتمسك «حزب الله»، بسليمان فرنجية.
صاروخ اعتراضي بسبب طائر!
تساءلت وسائل إعلام عبرية «لا نعرف ما المحرج أكثر للإخفاء ما أُطلق من لبنان أو إطلاق صاروخ اعتراضي قيمته 50 ألف دولار بسبب طائر».