منذ اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل عام 1948، لم تتعرّض لأكثر من 340 صاروخاً، ولم يهرع نصف سكانها (الـ 8 ملايين) الى الملاجئ، ولم تُقصف عاصمتها الاقتصادية ثلاث مرات في يوم واحد. اذ بعدما قصفت اسرائيل العاصمة اللبنانية بيروت (منطقة البسطا) وقتلتْ وجرحتْ العشرات من المدنيين من دون وجود أي قائد عسكري لـ «حزب الله» في المبنى المستهدَف، اتخذ الحزب الذريعة - الفرصة ليفرض قواعد الردع التي أعلنها أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، بأن تل ابيب ستُقصف مقابل بيروت، فأمطر اسرائيل بالضربات الصاروخية والمسيّرات لمدة يوم كامل ليثبت معادلة كيّ الوعي في الذهن الاسرائيلي، ولمآرب اخرى عدة، وليسلط الضوء على تعاظم قوة الحزب وعدم إمكان هزيمته بعدما كانت نظرية «التخلص منه» وُضعت على الطاولة خارج لبنان وداخله.

عام 1982، اغتالت اسرائيل السيد عباس الموسوي ليخلفه السيد حسن نصرالله كأمين عام للحزب. وعند تسلُّمه، ندمت اسرائيل على فعلتها بعدما اتضح انها تسببت باستبدال قائد بآخَر حارَبَها عسكرياً ونفسياً وفَهم العقل الاسرائيلي بمستوى كبير ومتقدّم وعمل على حفظ التوازن حتى أيام الحرب وحرص على عدم دفعها نحو «الجنون» بكسر معادلات غير مرسومة ولكن موجودة في وعي المقاومة.

وقد تجلّى ذلك بعدم «كسر الجَرة» مع اسرائيل، يوم اغتالت صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية، وحفاظه على التوازن كما اعتقده مناسباً حتى بعد اغتيال القائد العام فؤاد شكر. وفي تلك الحالتين لم يشأ نصرالله الردّ بقصف تل ابيب مباشرةً لاعتقاده أن اسرائيل لن تدخل الحرب الشاملة، كما نُقل عن قريبين تسنّى لهم الاطلاع على نقاشات الداخل ومقاربته. وفَهمت إسرائيل أن الحزب لا يرغب في الذهاب نحو الحرب الشاملة، وتحضّرت على هذا الأساس.

في سبتمبر الماضي، أوجدت اسرائيل إرباكاً عاماً داخل قيادة وعناصر «حزب الله» لمدة 10 ايام - كما صرّح قاسم - عقب تفجيرات أجهزة النداء والاتصالات واغتيال نصرالله، ثم قادة في الصف الاول والثاني والرئيس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، وضربتْ ما اعتقدتْ انه يمثّل 80 في المئة من ترسانة الحزب الصاروخية ومخازن أسلحة أخرى متنوعة المخزون، وحوّلت الضاحية الجنوبية هدفاً لتدمير متوحش، ودَفَعَ جيش الاحتلال قواته نحو خط التأمين الأول الأمامي في القرى الجنوبية التي كانت اسرائيل دمرتها طوال 11 شهراً ونيف من إسناد الحزب «لطوفان الاقصى» وغزة.

وعند انتخاب مجلس شورى «حزب الله» الأمين العام الجديد، احتاج لفترةٍ لإعادة ترتيب البيت الداخلي وحصْر الخسائر وتدريب جزء من القوات الخاصة لتحويلها نحو الوحدات الاختصاصية (الصاروخية - المسيرات - القاذفات الليزرية) لمعاودة ترميم الخسائر البشرية (4000) التي حيّدتها اسرائيل من خلال إصابة هؤلاء بعاهات دائمة أخرجتْهم من صفوف المقاتلين.

وهناك العديد ممّن تساءلوا عن السبب الذي دفع اسرائيل لتفجير أجهزة النداء والاتصالات قبل بدء المعركة وليس أول ايام بدايتها والتي كانت، لو حصل التوقيت أثناء المعركة، أحدثت إرباكاً مكّنها من دخول الجنوب بسهولةٍ أكبر بينما كانت الوحدات مربكة وقبل التقاط الأنفاس وإعادة الهيكلية والتنظيم والقيادة والسيطرة. إلا أن السبب يعود لتفسير خاطئ للاستخبارات الاسرائيلية التي وصلها عبر عملائها مضمون مذكرة داخلية للحزب طلبتْ من الجميع توخي الحذر من أجهزة النداء (PAGER).

وهذه المذكّرة هدفت لتنبيه المستخدمين أن اسرائيل تستطيع التنصت على هذا الجهاز وليس لأن الحزب كان يعتقد بوجود ما زرعتْه من متفجّرات وكرات معدنية بداخله. فاعتقدت تل ابيب ان الحزب يشك بالجهاز، وأن من الممكن أن يطلب سحبه من جميع مستخدميه. ولهذا، وبناء على تقديرات اسرائيلية حصل التفجير في التوقيت الذي لم تستفد منه اسرائيل كما كانت تتمنى، وأطلقت إشارة التفجير قبل وليس أثناء الأيام الاولى من اجتياح جنوب لبنان.

وباستعادة «حزب الله» عافيته العسكرية، بقي جمهورُ الحزب وبيئته في شكٍ من قدرات التنظيم المتبقية، خصوصاً أن اغتيال نصرالله أصاب البيئةَ في الصميم أكثر مما أصاب الهيكلية والنظام والقدرات الحربية باعتبار أن الحزب أنشىء على مبدأ مجلس شورى وقيادات متجددة وليس على قيادة مطلقة لشخص واحد. وكان لكاريزما نصرالله الفضل في بث الشعور بالاطمئنان والقيادة والعافية للبيئة الحاضنة بأنه هو الذي «وعد بالنصر سابقاً ويَعِد بالنصر مجدداً» دون غيره.

وانطلت على المراقبين من خصوم الحزب، فكرة الضعف المطلق فبدأوا بالتحضير لمرحلة ما بعد الحزب وكيف يجب إبعاده وعزله سياسياً والتخلص من سلاحه نهائياً. كذلك كررت اسرائيل تصريحات بأنها هزمت «حزب الله» وما عليها الا تحطيم ما تبقى منه وانهائه، كما قال وزير دفاعها، ودعا رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو المجتمع اللبناني ليثور ضده.

«تغيير الشرق الاوسط»!

وهذا ما دفع نتنياهو لتوسيع أهدافه لتشمل «تغيير الشرق الاوسط» حتى اتجهت الأنظار نحو احتمال ذهاب اسرائيل نحو سورية ما دام الحزب قد هُزم. الا ان اصطدام جيش الاحتلال بحقيقة المواجهات جنوب نهر الليطاني وقوّة الحزب الصاروخية ومسيّراته الغزيرة فرضت نفسها على نتنياهو لتغيير أهدافه لتصبح أكثر تواضعاً وصولاً إلى مطالبته بضمانات أميركية - من غير الضرورة ان تُرفق بأي اتفاقٍ مع لبنان لوقف النار - بالسماح لإسرائيل بالتدخل إذا رمّم الحزب قدراته العسكرية جنوب الليطاني من دون معرفة «اليونيفيل» والجيش اللبناني، خلافاً لِما ينص عليه القرار 1701 الذي يتضمن الانسحاب الاسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية المحتلة.

تضرب اسرائيل مئات المباني داخل الضاحية الجنوبية فقط لترفع كلفة إعادة البناء التي وعد بها الحزب ولزيادة أعداد النازحين في بيئته الحاضنة، هو الذي التزم بالردّ بضرب أهداف عسكرية في الشمال وحيفا من دون أهداف مدنية، وذلك لإبعاد ضربات اسرائيل عن المدنيين اللبنانيين.

وعندما ضربت اسرائيل مبنى يقطنه فقط مدنيون في بيروت العاصمة، سنحت الفرصة الذهبية ليُظْهِر «حزب الله» قوته بإطلاق مئات الصواريخ الكبيرة والمتوسطة في يوم واحد ضد أهداف مدنية وعسكرية، متحدّياً نظرية «عدم دفع اسرائيل الى الجنون» وليَظْهَر أمينه العام الجديد على أنه ايضاً قادر على «الوعد بالانتصار مجددا»، ليعيد الأمل للبيئة ويثبت ان قوة واستدامة الحزب غير مرتبط بشخص واحد بل بقدراته التي تستطيع خوض الحرب التي وَعَدَ بها إذا فُرضت عليه.

وأثبت الحزب بقصف اسرائيل بـ 340 صاروخاً (الأحد) أنه يملك القوة على تحمّل صراع طويل بمخزون كبير يستطيع تقويض ثقة اسرائيل بإنجازاتها وتفوقها العسكري. وأراد من خلال التكثيف الكمّي والنوعي للضربات توجيه رسالة بأن أكثر من 13 شهراً من الغارات الجوية المكثفة لم تمكّن اسرائيل من القضاء على شبكة التخزين لصواريخه الضخمة، وهي محصّنة في مواقع مخبأة جيداً، ما يثبر التساؤلات حول فعالية الاستخبارات العسكرية وادعائها الخاطئ بتدمير القدرات الصاروخية والقيادات.

وظهر نتنياهو غير قادر على تأمين الحماية لإسرائيل وليس فقط لسكان الشمال بعدما وصل 17 من الصواريخ الى تل أبيب وأخرى إلى اشدود، على الحدود القريبة من قطاع غزة.

وأعلن الحزب انه هو ايضاً يستطيع التفاوض تحت النار من خلال نيرانه، وليس ضغط النيران الاسرائيلية. وهو يخوض معارك ليس فقط صاروخية بل على جبهة الشرق في الخيام والقطاع الأوسط والقطاع الغربي في الوقت عينه، ويستطيع تعطيل الحياة بكامل اسرائيل إذا أراد ذلك، ليثبت معادلة الردع التي اعتقد الجميع وحتى أقرب المقربين من الحلفاء والأعداء، انه فَقَدَها.

كما وجّه الرسالة الى الخارج والداخل بأن للحزب مقاومة مرنة قادرة على الصمود رغم الجهود العسكرية الإسرائيلية، وان التفكيرَ بهزيمته وَهْمٌ لن يتحقق، وان وقف النار هو الحلّ الأنسب لغياب أي هدف إستراتيجي إسرائيلي من المعركة الحالية.

وقال وزير الامن القومي الإسرائيلي – وهو لا يملك القرار الأخير - إيتمار بن غفير بعد اجتماعٍ لنتنياهو حول الحرب واعطاء رئيس الوزراء الصلاحية المطلقة لاكمالها أو إنهائها انه «مدرك للقيود والاسباب، ومع ذلك فان الاتفاق مع لبنان خطأ كبير وتفويت فرصة تاريخية لاجتثاث حزب الله ويجب عدم وقف الحرب الاستمرار حتى تحقيق النصر».

ويُعتبر ذلك إشارة إلى أن رحلة الالف ميل نحو وقف الحرب بدأت. فلا تستطيع اسرائيل إنهاءها وهي متعثرة ولا تملك ورقة تستطيع فرض شروطها. ولن يقبل الحزب بإعطاء اسرائيل اي فرصة او ورقة تستخدمها لفرض شروطها، وسيستخدم الميدان لإيلام اسرائيل وقواتها المحتلة وتلقينها الرسالة بألا تُدْخِل في حساباتها احتلال جنوب لبنان في المستقبل، قبل ان يجلس على طاولة المفاوضات ليقدّم قرار الامم المتحدة 1701 ولا شيء إضافياً ملحقاً معه. ولذلك فإن نتنياهو يحتاج لمن ينزله عن الشجرة ووقف الحرب ليبقى القرار النهائي مسألة وقت لم يَعُد بعيداً.