من المستغرب، اصطدام التوصل إلى اتفاق لوقف النار بين «حزب الله» وإسرائيل بمفهوم السيادة اللبنانيّة. تحوّل المفهوم عائقاً أساسياً، لكنّه مصطنع، في حرب تدور في الواقع على الأرض اللبنانية. الأصحّ أنّها حرب تدور في «الساحة» اللبنانية، بين «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران من جهة والدولة العبرية من جهة أخرى. لبنان مجرد «ساحة».

نعم، أصبحت السيادة في اللبنانيّة بعيدة عن السيادة، خصوصاً منذ توقيع اتفاق القاهرة، برعاية جمال عبدالناصر، في نوفمبر من العام 1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينيّة. مثّل الحكومة اللبنانية وقتذاك قائد الجيش إميل البستاني، الطامح إلى أن يكون رئيساً للجمهوريّة، فيما مثل منظمة التحرير ياسر عرفات، الذي كان يطمح إلى تحويل جنوب لبنان إلى قاعدة يكرّس عبرها وجوداً عسكرياً فلسطينياً على الحدود الإسرائيلية من أجل الوصل إلى يوم يؤكد فيه وجود فلسطين على الخريطة السياسية للمنطقة.

ذهب لبنان، الذي أفقده اتفاق القاهرة السيادة على كامل أرضه، ضحية الطموحين. كما ذهب ضحيّة الفكر الذي كان يمثله رئيس الوزراء رشيد كرامي، الزعيم السنّي، الذي كان يعتقد أنّ اتفاق القاهرة سيكسبه شعبية وأن في الإمكان تحرير فلسطين انطلاقاً من جنوب لبنان. تضاف إلى ذلك كلّه العقدة المارونية المتمثلة بالوصول إلى رئاسة الجمهورية. لم تكن تلك عقدة قائد الجيش وقتذاك فحسب، بل كانت أيضاً عقدة زعماء مسيحيين مثل كميل شمعون، الرئيس بين 1952 و1958، الراغب بالعودة إلى موقع رئيس الجمهورية عن طريق استرضاء المسلمين، والشيخ بيار الجميّل، زعيم حزب الكتائب الذي كان يعتقد أن في استطاعته، عبر تأييد اتفاق القاهرة، نزع صفة الزعيم المسيحي المتعصّب عنه والتحول إلى زعيم وطني!

في كلّ الأحوال، دفع لبنان كلّه، بمسيحييه ومسلميه، غالياً ثمن اتفاق القاهرة والتخلي عن السيادة. ما لبث البلد أن سقط في فخ الوصاية السوريّة بعدما عرف الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي حكم بين 1970 و2000 توظيف الوجود الفلسطيني في لبنان بما يصبّ في مصلحته وصولاً إلى اقتناع هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركي حتّى 20 يناير من العام 1977 بأن لا بديل من سيطرة الجيش السوري على لبنان لضبط الوجود الفلسطيني المسلّح فيه.

عاش لبنان تحت الوصاية السورية حتى 25 أبريل 2005. يومذاك، خرج الجيش السوري من لبنان الذي انتقل مباشرة إلى الوصاية الإيرانيّة التي لايزال يعيش في ظلّها. خرج السوري من لبنان على دم رفيق الحريري. يخرج الإيراني حالياً، وإن بصعوبة، على دم كلّ اللبنانيين، بما في ذلك دم أبناء الطائفة الشيعية. يحصل ذلك بعدما قررت «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران، من دون تفكير بمصير لبنان واللبنانيين، فتح جبهة جنوب لبنان مستخدمة أداتها المحليّة «حزب الله». يكشف مجرد وجود الحزب وسلاحه غياب أي نوع من السيادة اللبنانية، خصوصاً بعدما تبين في اليوم التالي لـ«طوفان الأقصى»، في أكتوبر 2023، أنّه صاحب قرار الحرب والسلم في لبنان... كما يمتلك وسائل تسمح له ربط مصير لبنان بمصير غزّة.

في ضوء الحرب التي خاضها الحزب مع إسرائيل، نيابة عن إيران، بات لبنان يبحث عن التقاط أنفاسه. يفعل ذلك عبر ما بقي من مؤسسات في البلد يمثلها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يفاوض باسم «حزب الله»... وقائد الجيش العماد جوزيف عون.

ليس سرّاً أن «الجمهوريّة الإسلاميّة» تتذرع بالسيادة اللبنانية لتبرير رفضها إعطاء الضوء الأخضر لـ«حزب الله»، بالتالي لنبيه برّي، كي يكون هناك قبول بما طرحه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. توجد نقاط حملها هوكشتاين معه إلى بيروت أخيراً مازالت مرفوضة إيرانياً. النقاط غير مهمّة. يستطيع الجانب الإيراني القبول بها مثلما قبل، قبيل نهاية الولاية الرئاسيّة لميشال عون في خريف العام 2022، ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – الإسرائيلية بما يتناسب مع ما تريده إسرائيل وتسعى إليه.

كلّما مر يوم وكلّما تأخر وقف النار بين «حزب الله» وإسرائيل، زادت خسائر لبنان الذي يعاني من نقطة ضعف أساسيّة تتمثل في غياب رئيس للجمهوريّة وحكومة قويّة. لا يلام نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال. يقوم الرجل بأقصى ما يستطيع القيام به في ظروف في غاية التعقيد من جهة واصرار الحزب ومن يقف خلفه على رفع علامات النصر، وهو نصر الوقوف على جثة لبنان، من جهة أخرى.

يبدو موضوع السيادة اللبنانيّة آخر ما يُفترض التفكير فيه. لا يعود ذلك إلى أنّ مثل هذه السيادة غير قائمة مذ توقيع اتفاق القاهرة قبل 55 عاماً فحسب، بل يعود أيضاً إلى إظهار «الجمهوريّة الإسلاميّة» أنّها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في البلد. يكفي للتأكد من ذلك أن المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل تدور في واقع الحال بين «حزب الله»، الذي يمثل إيران، من جهة والدولة العبريّة من جهة أخرى. لا شكّ أن الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، يدرك ذلك ويعرف في قرارة نفسه أنّ لا وجود لسيادة لبنانية لا من قريب أو

بعيد.

يبدو ضرورياً أكثر من أي وقت توقف اللبنانيين عن الضحك على الذات. دفعوا غالياً في الماضي، ومازالوا يدفعون، ما بدأ باتفاق القاهرة وانتهى بسيطرة دولة «حزب الله» على الدولة اللبنانيّة، التي تحولت إلى دويلة تدافع عن نفسها بصعوبة تفادياً للسقوط النهائي للبلد وزواله.