تشكل المَجازرُ الجَماعية في الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» واحدةً من أكثر المَظاهر وحشية ومأسوية. فالمدنيون غالباً ما يدفعون أرواحَهم ثمناً لـ «صراع الفيلة» حين يتحوّلون «خاصرة رخوة» في لعبةِ ليّ الأذرع الجهنّمية أو «أكياس رمل» في متاريس لمشاريع كبرى.

ولم يمرّ يومٌ في لبنان من دون ارتكاب إسرائيل سلسلة من المجازر بحق المدنيين بذريعة ملاحقة أهداف عسكرية في بيئة «حزب الله»، في الجنوب أو الضاحية الجنوبية لبيروت أو البقاع، حيث يسجّل «مرصد الموت» ضحايا بالعشرات في «طاحونةٍ» اسمُها... الغارات الجوية.

فـ «النموذج الغزاوي» للمَجازر الإسرائيلية في لبنان صار مألوفاً وشِبه يومي، لكن تَحوط به مفارقاتٌ كأنها متعمَّدة وعن سابق إصرار. إذ على عَكْسِ ما يَحدث في غزة، غالباً ما تكون مَجازر لبنان «بلا صور» وبلا أسماء وكأنها جريمة... «بلا أثَر».

وإذ يصعب تعداد المجازر التي ارتكبتْها إسرائيل في عموم الجغرافيا اللبنانية، فالأكثر استحالة هو العثور على أي صورة لـ «مذبحة جَماعية» على غرار ما أَرْشَفَتْهُ الذاكرة الجَماعية يوم «مجزرة قانا» في العام 1996 والتي تحوّلت صورةً غيّرت مجرى الحرب برمّتها.

كثيرة هي الصور التي حفرت عميقاً في التاريخ ومجرياته... من طفلة النابالم في فيتنام (1972)، وإلى محمد الدرة في غزة (2000)، وهو ما يفرض سؤالاً... ما سرّ جعْل مجازر لبنان الآن «مكتومة»؟ هل بـ«قرار»ٍ؟ وممّن؟ ولأي اعتبار؟... هل هو فائض «مهنية» أو لـ «التكتم» على نتائج حرب غير محسوبة؟

التزام أخلاقي

وزير الإعلام اللبناني زياد مكاري لم يَجِدْ في حديث إلى «الراي» غيابَ صور الضحايا أمراً غريباً بل أثنى على «الاحترام والإنسانية والأخلاقية التي يتعامل بها المجتمع اللبناني وإعلامه مع الشهداء والمصابين».

وأكد أن «وزارة الإعلام لم تُعْطِ أيّ تعليماتٍ في هذا الشأن ولم تطلب عدم نشر صور الضحايا بل إن الجسم الصحافي آثَرَ من تلقاء نفسه اعتمادَ هذا النمط من التغطية التي تَحفظ كرامةَ الضحايا وتحترم مشاعر أهلهم وكرامتهم».

الوزير مكاري ورغم ميْله الواضح إلى عدم نشر الصور، يَعترف بأنها «يمكن أن تثير عواطفَ الناس وتَعاطُفَهم، ولكن في الحقيقة ليست وحدها ما يوثّق الحرب، فمَحاضر القوى الأمنية وتقارير وزارة الصحة اليومية حول أعداد الضحايا، وأخبار القصف اليومية كافية لجعْل قضية لبنان واضحة وضوح الشمس لكل مَن يودّ أن يرى. أما التعاطف وحده فلا يكفي ولا يغيّر في الواقع شيئاً».

بين لبنان وغزة تختلف الأمور، بحسب وزير الإعلام «من حيث طبيعة المجتمع والواقع الذي يعيشه وأعداد الضحايا. هناك كان عدد ضحايا المجازر المُمَنْهَجَة أكبر وكانت المستشفيات الغارقة تحت وطأة الاعتداءات والفظائع تستقبل المصابين بصعوبةٍ ما جعل الصور تأخذ الطابع المأسوي. فيما لبنان ورغم صعوبة ما يعيشه آثَرَ وفي شكل تلقائي حَجْبَ صور الضحايا وإن كانت فداحةُ المجازر تجعل بعض الصور تنتشر بين وقت وآخَر».

المصوّرون وهم في طليعة المعنيين كـ «رواد عدسات» ربما اتخذوا قرارَهم بأنفسهم، فهم يوثّقون صورَ الضحايا والمصابين، لكنهم يمتنعون عن نَشْرِها.

أحد المصوّرين المُخَضْرَمين، الذي غطى الكثير من حروب لبنان والذي يفضّل البقاء في الظل، شرح لـ «الراي» أن «الصحافة العالمية والوكالات العالمية الأجنبية اتخذت منذ زمن بعيد قراراً بحجْب صور الجثث والضحايا عن صفحاتها ومواقعها لأن مَن يقرأ الصحف والمجلات إنما يقوم بذلك في الصباح وهو لا يودّ أن يرى صوراً متعبة مؤسفة في هذا الوقت من النهار».

وتابع «من هنا بات مصوّرو الوكالات العالمية يدركون أنهم حتى لو صوّروا المَشاهد المؤلمة فإنها لن تُعرض أو سيتم عرْضها مموّهةً للتخفيف من أَثَرِها، خصوصاً إذا كانت الصور تعود إلى أطفال. وحتى صور غزة لم تكن تُنشر في وسائل الإعلام العالمية إنما عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويبدو أن الإعلام اللبناني ملتزم بهذا القرار، فما من أحد يقوم بنشر صور كهذه حتى لا يقال إنه يتاجر بدم الأطفال أو الضحايا...».

ولفت المصوّر، صاحب التجربة المرموقة، إلى «أن لا أحد يمنع نشْر الصور، ولكن في المقابل لا أحد يرغب في ذلك. أما بالنسبة إلى مواقع التواصل وعلى خلاف ما حصل في غزة، فإن اللبنانيين يمتنعون عن نشْر الصور عليها لعدم إثارة حساسيات تنخر المجتمع اللبناني أو حتى لا تُفسر على أنها تشفياً ولا استعطافاً أو على أنها تنطوي على انهزام أو انتقام».

مصوّر «وكالة سبوتنيك للأنباء» الروسية عبدالقادر الباي، رَسَمَ مشهدَ تغطيةِ الحرب في لبنان بواقعية أكبر، فقال لـ«الراي» إن «المصوّرين يعانون في الوصول إلى المناطق المستهدَفة في الوقت المُناسِب، وحين يصلون تكون فرق الإنقاذ قد سحبت الجثث من الموقع».

وأضاف: «في الجنوب أو الضاحية، غالبية المناطق تتعرّض للغارات أو للقصف، وكثيراً ما يتم استهداف الموقع نفسه مرتين ما يصعّب علينا الوصول والعمل. والكثير من وسائل الإعلام لم يعد لديها حضور في مناطق الجنوب. ومَن حافظ على حضوره لديه مصوّرون ومُراسِلون يقومون بتغطية الأحداث من مكان وقوعها. وحين نكون بالقرب من المكان المستهدَف نصوّر مثلاً عملية انتشال الجثث ووضْعها في أكياس».

وتابع «في غارة الجناح في بيروت استطعْنا الوصول إلى المكان وكان ذوو المفقودين تحت الركام ينتظرون على أحرّ من الجمر أيَّ خبرٍ عن أحبائهم. ولذا شعرْنا بالخجل من التقاطِ صُوَرٍ للضحايا احتراماً لحرمة الموت ومَشاعر الأهل. وقد رأى بعض الأهل الموجودين شخصاً يحاول التقاط الصور فجُنّ جنونُهم... وكذلك في كثير من الأحيان نُجابَه كمصورين ومُراسِلين بطوقٍ أمني سواء من الجيش اللبناني أو من حزب الله، يَمنعنا من الاقتراب».

المُصَوِّرُ الذي تَمَرَّسَ بتغطية الحرب ومآسيها يُخْبِرُ عن منزلٍ استُهدف في بلدة شبعا الجنوبية وكانت فيه امرأة ورجل كبيران في السنّ. وكان مع زميليْن له من أول الواصلين... وَجَدوا المرأةَ أولاً مضرَجة بدمائها تحت الردم ثم الزوج في الحال نفسها. هالَهُم المشهدُ وآلَمَهُم، ورغم كون وظيفته أخْذ الصور إلا أن عبدالقادر لم يَنشر مطلقاً الصور التي التقطها للجثتين لأنه اعتبر أن أخلاقيات مهنته تحتّم عليه الانحناءَ أمام حرمة الموت.

ما يحدث على الأرض من مجازر يتم توثيقُه من فرق الإسعاف التي تتواجد في المكان، وفق ما عرفت «الراي».

كما يتم التقاط الفيديوهات والصور من الناس الموجودين، «شهود عيان»، وهو ما يبدو جلياً في الفيديوهات التي تُنشر على مواقع التواصل حيث تحوّل انتظارُ الغارات لتصويرها بعد الإنذار بالإخلاء ظاهرةً غريبةً، إذ يَجتمع عشرات الأشخاص في مكان قريب جداً منتظرين حصول الغارة لـ «بثّها» مباشرةً من دون الخشية من الإصابة أو التعرّض لاستهداف ثان.

لكن حين يصل الأمرُ إلى نشْر صور الضحايا، فالكل يتهيّب الأمر احتراماً لمَشاعر عائلاتهم وحرمة الموت.

«لو كانت الفيديوهات والصور المُرْعِبة تعطي نتيجةً، لَكانت الحرب على غزة توقفت من الأسبوع الأول»، يقول الباي.

ويضيف «لكن أمام النفاق العالمي لم يعد لها لزوم، رغم أنه يمكن للصُوَر أن تؤثّر في الناس لأنها تُقرأ كما لو أنها خبر لا بل تأثيرها يَفوق الخبر».

وما من شك في أن إدارات محطات التلفزيون والفضائيات العربية والعالمية تتبع سياسات مختلفة في عرض صور المأسي تخدم توجهها السياسي والمهني وحتى البحث عن السَبَق الصحافي.

وفي حين تتبع المحطات العالمية ميثاق الشرف غير المكتوب بحجْب صور الضحايا، فإن بعض المحطات مثل «سبوتنيك» الروسية تَعرض الصور التي تصلها كما هي، ومن دون قيود، وهي كانت رائدة في نشر الصور الآتية من غزة، أما من لبنان فتتروى في نشْر الصور وتكتفي ببعض المَشاهد، بينما المحطات المحلية على اختلافها تَغيب عنها صور الضحايا رغم تَنَوُّع انتماءاتها السياسية.

مراسلة تلفزيون «الجديد» زهراء الفردون، تقول لـ «الراي» إنها شهدت انتشال جثث من بين الأنقاض وبينها جثة لطفل ولاسيما في الغارة التي أصابت منطقة الجناح في بيروت، وكان المصوّر يَبْكي أثناء التقاطه المشهد، لكن الصور لم تُنشر على الشاشة. «وحدها مجزرة عكار تم تسريب صور وفيديوهات مؤلمة لأشلاء الضحايا الذين سقطوا فيها تناقلتْها مواقع التواصل في شكل خجول لشدة هول المَشاهد».

وثائق وإثباتات قانونية

ثمة سؤال «قانوني» ملحّ: ألا يحتاج لبنان إلى وثائق وصور ودلائل لتقديمها في حال أراد رفْع شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية أو أي مرجع قضائي دولي آخَر؟

المحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية في بيروت والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ يشرح لـ «الراي»، أن «لبنان وإسرائيل ليسا عضوين في نظام روما وهو عبارة عن اتفاقية دولية تنضم إليها الدول رضائياً كي تصبح تحت اختصاص المحكمة للنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم العدوان. وقد وُضع نظام روما عام 1996 وباشرت المحكمة المذكورة عملها عام 2002 بمشاركة نحو 125 دولة حول العالم، إلا لبنان وإسرائيل وعدداً كبيراً من الدول العربية التي لم تنضم إلى اتفاقية روما، وبالتالي فإنه من الصعب ربط الاختصاص لهذه الجهة، كما أن مقاضاة إسرائيل دونها أيضاً محاذير أبرزها الاعتراف بها كدولة».

أما بالنسبة للمحاكمات الدولية فحين تقوم فإنها تتطلب أكثر من الصور «وحسب تجربتي مع المحاكم الدولية»، يوضح مرقص «فإن القضاة يطلبون من المتظلم أي الضحية أن يقدّم ما يقرب إلى حد الإثبات التعجيزي أي أسماء الضباط الذين أمروا بالقصف والإمرة الهرمية التسلسلية في القيادة لدى مَن قام بارتكاب الجرائم ولا يكتفون فقط بالصور على أهمية وجود هذه الأخيرة».

لو كانت الصور تكفي

تبقى الناحية النفسية التي يمكن أن تُخْفي السببَ الحقيقي الكامن وراء امتناع اللبنانيين على مواقع التواصل وعبر وسائل الإعلام عن نشر صور ضحاياهم.

فهل تعب اللبنانيون من صور المآسي التي تلاحقهم منذ خمسة عقود؟ هل باتوا يعيشون حال إنكار يحتمون خلْفها من الألم، أم أنهم يئسوا من إمكان التغيير واستخلصوا أن لا الصور ولا رفْع الصوت ولا الاعتراض يمكن أن يغيّر قيد أنملة في واقعهم البائس؟

في هذا الإطار تلخص الأديبة والناشطة ماري القصيفي على صفحتها الخاصة على أحد مواقع التواصل الموضوع، قائلة «لو كانت لديّ ثقة واحد في المئة بأن الرأي العام العالمي والعربي واللبناني سيتأثّر بفظاعة ما يَظهر في الصور لكنتُ ملأتُ صفحتي صوراً وفيديوهات على عدد الثواني. ولو كان عندي أمل واحد في المئة أن نشْر الصور سيعلّم اللبنانيين نبْذ العنف ورفْض الحرب والسعي نحو السلام لَكان صار شغلي الوحيد نشر الصور والفيديوهات...».

وكتبت «هذه ليست أول ولا آخِر حرب والعينُ تعوّدت على مَشاهد الموت والتدمير... بسبب رغبتنا المكتومة والباطنية واللاواعية بالانجذاب نحو البشاعة والغضب والضرب والقتل والتعنيف وتعذيب الحيوانات وقطع الأشجار وتلويث الطبيعة... الحرب ليست لعبة، والإعلام ليس تسابقاً على نشر الصور العنيفة، ويمكن أن يكون التمسك بالذكريات الحلوة والمبادرات الإنسانية الحلوة نوعاً من أنواع المقاومة أيضاً».

رأي أخلاقي فكري يماشيه رأي علمي، حيث يقول الاختصاصي في علم النفس العيادي الدكتور جون داوود، إن موضوع نشر الصور المؤلمة دقيق وحساس «فمن جهة تؤدي استعادة صور المجازر إلى إثارة المزيد من الخوف عند الناس وجرْح مشاعر الأهل والمصابين وقد تؤثر على الشجاعة والعزم عند الناس، فيما ومن جهة أخرى يمكن أن تثير دعماً إنسانياً وحقوقياً ومعنوياً كما حصل في غزة».

ويضيف «في الداخل اللبناني قد تولّد هذه الصور المؤثّرة حساسياتٍ معينةً وقد تساهم في تعميق الجروح لكن يجب إظهارها للخارج لخلق موجة من التعاطف والفهم لما يحدث مع التأكيد على الطابع الغدار للعدو الإسرائيلي».

الاختلاف السياسي يجعل الانقسام حول الصور أمراً مفهوماً
من وجهة نظر علم النفس كل ما يذكّر بالمآسي التي عاشها الفرد مثل الصورة أو الصوت يمكن أن يشكل محفّزاً trigger يعيد الى السطح التروما التي عاشها أثناء حصول المأساة.ويشتدّ المفعول السلبي لهذه المحفزات في حال لم يُعالج الشخص الذي عاشها بشكل تام، إذ حينها يعود إليه الخوف وكأن الصور تعيد أذيته من جديد.ويقول الاختصاصي في علم النفس العيادي الدكتور جون داوود، إن «رؤيةُ المجازر تؤذي مَن تأثَّر بها ومَن كان قريباً منها وفي لبنان كلنا قريبون ويطولنا التأثر ذاته».ويشير إلى أن ثمة نقطة لابد من الإضاءة عليها ربما تساعد في تفسير ما يحصل «وهي عائدة إلى شخصية المجتمع اللبناني التي تملّ بسرعة حتى ولو كانت القضية مهمة، وإذا تكررت يتضاءل اهتمامُ الناس بها بينما في الغرب يعيدونها ويُشْبِعونها تحليلات لمعرفة أسبابها»، متسائلاً «فهل أعظم من سرقة أموال المودعين التي لم تثر عند اللبنانيين ردات فعل بحجم ما حصل»؟وإذ يعتبر أن اللبنانيين اليوم «ليسوا مطالَبين بنشر الصور المؤلمة في الداخل. وحتى ولو تَظاهَرَ البعضُ بأنه غير متأثّر بما يحدث أو بما يراه من صور لابد أن تأتي ساعة تعود فيها كل هذه التروما إلى السطح»، يرى «أن الانقسامَ السياسي في لبنان يجعل الانقسامَ حول موضوع الصور أمراً مفهوماً، فالبعض يريد الإضاءةَ على ما يَحدث من مجازر من باب تبريره لضرورة الاستمرار بالدفاع عن الأرض، وقسم آخَر يودّ إظهارَ المَجازر ليُبْرِز للعالم المردودَ السلبي لهذه الحرب والخطأ بدخولها، فيما قسم من اللبنانيين يفضّلون أن يغمضوا عيونهم وتَجاهُل الواقع لأسباب سياسية ونفسية».لكن يبقى أمر مؤكد يقول داوود، وهو «وجوب عدم استغلال الصور من وسائل الإعلام للحصول على سَبَق صحافي، وضرورة احترام الموجبات الإنسانية والأخلاقية والنفسية والقانونية في الداخل وحجْب الصور، فيما ينبغي إظهارُها للخارج لاستدرار العطف وتحويل الرأي العام».