لقد لعبت الأسطورة الإسرائيلية دوراً مهماً في تشكيل المنظور العربي والإسلامي في ثلاثة اتجاهات.
اتجاهات الأسطورة الاستثنائية
الاتجاه الأول: هو إزاء اليهود كجماعة دينية منظمة تكن العداء للمسلمين وتقوم بالمكائد لهم منذ صدر الإسلام في المدينة المنورة حيث بداية الدعوة النبوية الشريفة.
في إطار هذا الاتجاه يتبلور تصور عام بأن اليهود، كجماعة منظمة وليس كفئة دينية، قاموا بشن الحروب والتحريض على المسلمين ونكثوا العهود وأثاروا الفتن لكن المسلمين انتصروا عليهم. وأخذت تلك الأحداث في تشكيل قواعد عداء وشكّ وريبة من اليهود على اعتبار أنّهم قد استمروا في محاولاتهم لتقويض الدعوة الإسلامية والعمل على إثارة الفتن بين المسلمين من خلال المكائد وإثارة البغضاء.
ونتيجة لضعف المجتمع الإسلامي وانحدار قوة الدولة الإسلامية خاصة في عهد الدولة العباسية والعثمانية، حيث انشغل المسلمون بالنزاعات في ما بينهم وتفرقوا، فأخذت بعض القصص والحكايات تضخم من دور اليهود في الوهن الذي أصاب المسلمين، وحينها بدأ تضخيم القدرة اليهودية في مقابل عقدة الاستضعاف والفتن والشتات التي يعاني منها المسلمون، ومن هنا بدأت الأسطورة. وفي هذا السياق أصبحت تهمة العمالة لليهود تشاع بين أقطاب الاختلاف في المجتمعات الإسلامية وذلك من أجل الحط من الخصم وتكفيره وشن الحرب عليه في محيط المجتمع الإسلامي، ومن جهة أخرى تبرير حالة الفشل والضعف والوهن التي تعاني منها المجتمعات والدول وذلك من خلال إلقاء اللوم على الآخرين.
الاتجاه الثاني: يتمثل في ما تعارف عليه بالإسرائيليات، وهي بمثابة استلالٍ من بعض السرديات اليهودية والتلمودية التي عملت بعض المدارس والمؤسسات والشخصيات على إقحامها في التفسيرات الإسلامية للكتاب والسنة بما يخدم التحريف والتخريف الذي من شأنه أن يفسد الثقافة الإسلامية.
مما لا شك فيه أن اليهود المعادين للإسلام، أو ممن تأثر أو تعامل معهم واختبأ تحت عباءتهم، كان له دور في إقحام بعض من تلك السرديات اليهودية في الأدبيات الدينية الإسلامية (الإسرائيليات) والتي كان بعضها مؤثراً في تشكيل الوعاء الثقافي لسواد عظيم من المسلمين. وفي الوقت ذاته فمن المؤكد بأن عقدة الإسرائيليات قد شكّلت عقدة عجز وسلاح اتهام بين المسلمين والعرب قد تجذر بفعل الزمن. كل ذلك قد قاد إلى عدم الثقة بين المدارس الإسلامية إلى جانب عدم الثقة بالنفس في القدرة على التخلص من تلك الإسرائيليات حتى غدت متمكنة من حتمية الوجود وكأنها بدهيات مكتوبة ومقسومة لا حول للمسلمين بها ولا قوة لهم نحوها!
الاتجاه الثالث: والذي تحور عبر الزمن من الاتجاهين السابقين فشكل توجه الصهيونية العنصرية التي خلطت بين الشخصية اليهودية المتعصبة والسرديات الإسرائيلية المحرفة، فصنعت قوة سياسية واقتصادية وثقافية تغلغلت في الأوساط الدينية المسيحية والإسلامية، وكذلك العلمانية والليبرالية والاشتراكية، لتكوّن أيديولوجية سياسية مهيمنة تهدف إلى إقامة كيان يجمع ما بين تعاليم المدرسة التلمودية المتعصبة والعرق اليهودي والثقافة الغربية.
من هذا الخليط تم اختلاق هوية كيان صهيوني مهجن يمكن أن يجمع المتناقضات الثقافية والأيديولوجية والفكرية والعرقية والجنسية. هذا الكيان الذي أتاح لنفسه احتلال فلسطين ليجمع فيها ذلك الخليط الهجين تحت ما يعتبر بـ«دولة إسرائيل» التي تتماحك في جدليتها التناقض بين «مشروع» الدولة العلمانية الديمقراطية الليبرالية الاشتراكية مع «مشروعية» الدولة الدينية اليهودية والعنصرية والتعصبية!
ولذلك المشروع وتلك المشروعية لابد من اختلاق صورة «الأسطورة» ولكن بشكل مؤسسي. وبناء عليه تشكلت أسطورة الدولة الاستثنائية التي لا تهزم، والاستثنائية التي لا تحاكم، والاستثنائية التي تجمع التناقضات، والاستثنائية التي تبدع، والاستثنائية التي تقوم بأي عمل دون رادع. ومن خلال أسطورة الاستثنائية تتم عمليات التبرئة من أي جريمة، بل إن مجرد توجيه الاتهام لهذه «الدولة الاستثنائية» يعتبر جريمة عنوانها معاداة السامية. وهذه الأسطورة الاستثنائية تم حقنها... هذه العقلية العربية الإسلامية والغربية والشرقية على مستويات كبيرة وكثيرة رسمية وشعبية.
أما بالنسبة للعرب فبعد الحروب الأربعة (1948، 1956، 1967، 1973) التي خاضتها أكبر الدول العربية وهُزمت في غضون فترة قصيرة فقد كان ذلك بمثابة تجذير للأسطورة الصهيوإسرائيلية. فنتائج تلك الحروب وقعت في مصيدة الاستسلام للأسطورة، فدعونا ننظر إليها من بعيد على النحو التالي:
1 - حرب عام 1948 التي أطلق عليها بحرب النكبة استمرت 9 شهور بين خمسة جيوش عربية منظمة مضاف لها القوات الفلسطينية ضد عصابات صهيونية فاستطاعت الأخيرة احتلال الأراضي وتهجير المواطنين وفرض السيطرة وإقامة الكيان السياسي.
2 - أما حرب 1956 والتي أطلق عليها بحرب العدوان الثلاثي فقامت بها كل من فرنسا وإسرائيل وبريطانيا على مصر فعلى الرغم من اعتراض أميركا والاتحاد السوفياتي على ذلك العدوان إلا انه أسفر عن تعويض تؤديه مصر لشركة قناة السويس القديمة وتنازلها عن ممتلكات الشركة خارج مصر.
3 - الطامة الكبرى وقعت في حرب 1967 والتي يسميها العرب حرب النكسة وتسميها إسرائيل حرب الأيام الستة! في هذه الحرب خاضت إسرائيل حرباً ضد كل من مصر وسورية والأردن والعراق، ومعها بعض الجيوش العربية الداعمة، واستطاعت أن تهزمهم بستة أيام حيث تم قتل ما بين 15-25 ألف جندي عربي في مقابل 800 جندي صهيوني وقد خسر العرب سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، علاوة على تهجير الآلاف من الفلسطينيين وتوطين الصهاينة في أراضيهم.
4 - في حرب 1973 التي يعتبرها بعض العرب حرب انتصار، وهي بالواقع العسكري بخلاف ذلك حيث لم تستطع سورية استعادة أراضيها في الجولان، بل تمدد الاحتلال أكثر داخل الأراضي السورية. أما في الجبهة المصرية فعلى الرغم من نجاح الجيش المصري عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، ولكن لم يستطع تحقيق تقدم أو تحرير سيناء، بل اكتفى بصد القوات الاسرائيلية عن السيطرة على السويس والإسماعيلية.
في حرب 1973 التي أطلق عليها حرب أكتوبر أو حرب تشرين أو حرب يوم الغفران شارك حوالي 9 دول عربية بالإضافة لمصر وسورية، ولكن الانتصار العسكري لم يتحقق. الذي تحقق في هذه الحرب هو أن الجانب الصهيوني أظهر احترامه القسري للجيش المصري الذي استطاع أن يدمر خط بارليف، وأن ينجح في شن هجوم مباغت، وهو الأمر الذي عظم قدرة الرئيس الراحل أنور السادات، التفاوضية لاسترجاع سيناء. لذلك عمل الكيان الصهيوني على تحييد دور الجيش المصري في معادلة الصراع العربي - الصهيوني حتى لا تتبدد صورة الأسطورة الاسرائيلية.