تتعدّد الأسماء والحرب واحدة... مدمّرة، لا سابق لها، متوحّشة، أمّ الحروب، مجنونة، يا قاتل يا مقتول، ساحقة، إقليمية بالواسطة وفتّاكة. أوصافٌ تختزل مستوياتٍ من العنف لم تَعرفها حروبُ العصر الحديث وتختزن دلالاتٍ على موتٍ هائلٍ ودمارٍ خيالي ونزوحٍ كوارثيّ في واحدةٍ من أكثر الحروب تَطاحُناً على الكوكب منذ عقود مديدة.
ويَصعب العثورُ على «إيجابيةٍ» واحدةٍ بين ركامِ الحرب وأنقاضها، وحُطامها الهستيريّ، لكن ثمة ظاهرة رائدة أطلّت من على خطوط النار وفي الميادين الأكثر التهاباً، في الجبهاتِ المشتعلة ومِن على الشاشاتِ التي تفيضُ بالعواجل والنقل المباشر وبمجرياتِ الحرب الملعونةِ لحظة بلحظة... إنهنّ مراسلات الميدان و«نجماته».
لم تَعُدْ «تاء التأنيث» حبيسةَ مكاتب التحرير ولا «نون النسوة» مجرد إعلاميات في المَقاعد الخلفية. فحربُ لبنان الثالثة، أو الحرب بين إسرائيل و«حزب الله»، وحرب الآخَرين على أرض لبنان (إيران – إسرائيل)، نقلت «شهرزاد» من الأسطورة إلى بطلة على شاشةِ حرب قد تمتدّ إلى ألف يوم ويوم.
فالمراسلات الميدانيات في وسائل الإعلام اللبنانية والعربية يَختبرن في الحرب الأعتى الأهوالَ والتحديات والأخطار على «الهواء مباشرة»... عيونهنّ تطارد المسيّرات والصواريخ والطائرات، تُبْحِرُ بعيداً بحثاً عن الضحايا والناجين، أما قلوبهنّ فدائمة الطيران إلى البعيد، إلى بيوتهن وعائلاتهن وأولادهن، إلى كل الأحبة.
في قلب الخطر هنّ، وفي وسط الموت والدمار. مراسلات ميدانيات يواجهن أصعب التحديات لنقل الحقيقة. الخوفُ رفيقهنّ الدائم والإصرارُ كلمةُ السرّ التي تُوَجِّه كل خطواتهن. في حاصبيا اختبرن الموت عن قُرب، وفي رميش رأين قرى تُزال عن الوجود أمام أنظارهنّ. في بيروت والضاحية والبقاع عشن فظاعةَ القتل والتدمير ووُسمت صُوَرُهُ في أذهانن لكنهن واجَهْنَ كل ذلك بشجاعةٍ وحسٍّ صحافي يأبى إلا نَقْلَ الحقيقة.
بكلماتهنّ وعلى ألسنتهنّ، يرتسم مشوارٌ مليء بالمشاعر والصور لمراسلاتٍ ميدانياتٍ تعيش كل منهنّ تجربتَها الخاصة وترويها لـ «الراي».
تشعر بأسى على عيتا الشعب وتروي أخطر 48 ساعة عاشتْها على الجبهة جويس الحاج «الصامدة» مع رميش... عَيْنها على الجبهة وقلْبها في البيت
جويس الحاج، مُراسِلة «التلفزيون العربي» رافقتْ حربَ الجنوب منذ اندلاعها. ومع تَحَوُّلِها حرباً شاملة صمدت في موقعها في بلدة رميش المحاصَرة والواقعة على الشريط الحدودي الذي يَشهد أعنف المَعارك. لم تغادرها منذ نحو شهر ونصف الشهر. الأم والزوجة والابنة ارتضتْ الابتعادَ عن عائلتها لتنقل إلى العالم حقيقةَ ما يحدث على أرض الجنوب.
تقول الحاج لـ «الراي» إنه «في الفترة الأولى كانت الأمورُ سَلِسَةً، والطريق مفتوحة، ومَواكب تخرج وتعود، والسلع والأدوية مؤمَّنة في رميش. لكن العدو الإسرائيلي قصف الطريق بين عين إبل وبنت جبيل ولم يعد الوصول إلى البلدة سهلاً ما سبّب نقصاً في التموين ولاسيما الخبز. الفندق، حيث يقيم الصحافيون، كأنه واحة بسبب القدرة على تأمين المتطلبات اليومية كما ان المازوت مازال مؤمَّناً والإنترنت (ماشي حاله) لكن مع استمرار أمد الحرب فإن الأمور ستصبح أصعب».
صامدة في رميش وحزينة على عيتا
أكثر ما تخشاه مراسلة «التلفزيون العربي» هو انقطاع الإنترنت «وتالياً انقطاعنا عن العالم ولا سيما أن شركة اتصالات واحدة مازالت تؤمن التغطية. وقد خبِرْنا هذا الانقطاع سابقاً لمدة 48 ساعة بتْنا خلالها معزولين عن العالم لا نعرف ما يجري حولنا ولا نستطيع نقْل ما يحدث أو التواصل مع عائلاتنا. حينها التفتْنا إلى مجتمعنا الصغير لنتواصل إنسانياً بعدما كنا نعيش عبر شاشات هواتفنا. مجتمع يضمّ (الزملاء) محطات محلية وفضائيات عربية وعالمية لم يترك أيّ من مراسليها مكانَه، ولسانُ حالِ الجميع سنبقى ما دام أهل رميش باقون ودورُنا نقْل معاناة أهل البلدة ومَن لجأ إليها من القرى المجاورة».
المهمة على حافة الخطر في هذا المكان لم تكن سهلة اطلاقاً، بحسب جويس، التي قالت «على مدى أسبوعين كنا نعاين القصفَ، والغاراتُ تنهال بلا توقُّف على منطقة عيتا الشعب التي لا تبعد أكثر من 500 متر خط نار. كنا نسمع صوت المقذوفات حين تنطلق من مرابض العدو خلفنا، وحين تسقط أمامنا في القرى المُقابِلة. مرّت 48 ساعة لم نعرف فيها طَعْمَ النوم وكان الفندق يرتجّ بنا، وعقلُنا الباطني يعيش حال توتر ويحاول استيعابَ هول القصف والدمار ومَشهد البيوت التي تتفجر أمام ناظرينا. شعرتُ بأسى عميق على عيتا وأهلها الذين عشت معهم وتعرّفتُ إلى أحوالهم، وبالذنب والقهر لاضطراري لنقْل ما أراه بموضوعيةٍ فيما أنا أتمزّق من الحزن على واقع ناسٍ تَآخَيْتُ معهم لفترة. وكان أشد ما يدور في رأسي ألماً: ماذا سيجد العائدون إلى قريتهم؟ أين بيوتهم وحقولهم ومواسمهم؟ فالمآسي الإنسانية المنتظَرة توازي بحدّتها مآسي الحرب والموت والدمار».
منذ شهر أصابت المدفعية أطراف رميش وكان هذا بمثابة تحذيرٍ بأن الخطرَ قائمٌ واحتمالَ استهدافٍ البلدة موجودٌ في كل لحظة. ولسانُ حال إعلامية الميدان «لسنا أفضل من الناس الصامدين هنا الذي تَمَسَّكوا بوجود مخفر الدرك في دلالةٍ على تمسكهم ببقاء الدولة على أرضهم. وخبرُ استهداف الصحافيين في حاصبيا نزل علينا كالصاعقة. يومها قرع بابي الشباب في الرابعة فجراً ليخبروني بالأمر، وشعرتُ بأن كارثةً حلّت. فهناك موجودٌ فريق التلفزيون العربي، وكان همّنا الأول الاطمئنان عليه وعلى كل الزملاء. الشهيدان وسام وأبو رضا زميلان لنا عشنا معهما فترة طويلة في إبل السقي. واستهداف الصحافة أَشْعَرَنا بأننا جميعنا في عين الخطر، وبقينا ليومين كلما حلّق الطيران على علو مخفوض انتابَنا الخوفُ، لكن ضرورات العمل عادت لتسرقنا من مخاوفنا».
في صغرها كانت شديدة الخوف، وتروي جويس «حتى أن أهلي حصّنوا لي ملجأ أيام الحرب الأهلية لشدّة خوفي من أصوات القذائف. واليوم رسالتي الصحافية نزعت مني هذا الخوف وما عدتُ أخشى على نفسي بل على أولادي وعائلتي في حال تعرّضتُ للأذى. الابتعاد عنهم صعب لكنني أريد أن أكون مثالاً ناجحاً يَقْتَدي به أولادي. أتواصل معهم يومياً كما لو أنني موجودة في البيت، حتى اننا ندرس معاً بعد الظهر وأحزن جداً حين أسمع ابني يقول لي: أشعر بفراغٍ من دونك. أريدك أن تكوني في البيت! وحين استُهدفت الصحافة في وقت سابق في يارون، أول ما فكرتُ فيه أولادي وزوجي، لم أفكّر في نفسي وكان سؤالي الوحيد ماذا يمكن أن يحلّ بهم لو أصابني مكروه؟».
وتختم: «المرحلة اليوم تجاوزتْ كل الخطوط الحمر وصار الخروجُ من رميش محفوفاً بالمَخاطر. والقليلون ممن تجرأوا على المغادرة والعودة يَصفون كيف تغيّرت المناطق كلها في غضون شهر ونصف الشهر وكيف دُمرت معالمها! لكن رغم كل شيء هذا هو المكان الوحيد الذي أريد البقاء فيه في هذه المرحلة لأن الحدث هنا والحقيقة هنا...».
... هكذا حرمتها جثةُ الرضيع في أيطو من النوم
بترا أبوحيدر تخوض تحدّي الموضوعية في زمن الأهوال
مُراسِلةٌ شابة تُلاحِقُ الحدَث أينما وُجد وتقوم بتغطيةٍ ميدانيةٍ في المناطق المشتعلة بين الجنوب والبقاع والضاحية. تملك ما يكفي من الشجاعة وفق قولها لتكون في أشدّ النقاط خطراً. تضع مَخاوِفَها جانباً وتقوم بما يُمْليه عليها واجبها الصحافي، متمسكةً بأخلاقياتِ المهنة وقواعدها... إنها بترا أبوحيدر مراسلة «محطة L.B.C.I».
وتقول «حين استُهدفتْ منطقة أيطو الشمالية بغارةٍ مفاجئة أوقعتْ الكثيرَ من الشهداء، تَوَجَّهْتُ إلى هناك وكانت فِرَقُ الإنقاذ سحبت الجثث، لكنني رأيتُ طفلاً رضيعاً جثةً هامدة. هذا المنظر جَعَلَني غير قادرة على النوم لأيام عدة. وفي إحدى المَرات، كنتُ في تغطيةٍ مع إحدى الزميلات وانطلق صاروخٌ من حيث كنا موجودتيْن فأحسسْنا حينها بالخطر من أن يتمّ الرد عليه واستهدافنا. استشهادُ زملائنا الصحافيين (في حاصبيا) الذين قُتلوا عن قَصْدٍ وفي شكل مباشرٍ أثناء نومهم، وما سبقه من استهدافاتٍ للصحافيين على مدى العام الماضي جَعَلَنا ندركُ أننا أصبحنا في دائرة الخطر، ولذا ازداد منسوبُ التوتر عندي رغم ما أتحلى به من شجاعة، وصرتُ أخشى أن تستهدفني وزملائي مسيَّرة ما. الأَثَرُ النفسي التراكمي لكل ما عاشه الصحافيون في لبنان منذ أكثر من عام من محطاتٍ خطرة لابد أن يكون كبيراً فنحن مررْنا بحالاتٍ متكررة من الخطر وعايَشْنا الكثيرَ من المآسي منذ انفجار المرفأ وكل ما مرّ بلبنان من أحداث أمنية صعبة».
شَغَفُها المهنيّ يجعل بترا أكثر مَيْلاً للعملِ الميدانيّ: «أعرف صعوبات الأرض وما تَتَطَلَّبُهُ من تضحياتٍ وتَعَبٍ وإرهاق. الخوفُ الذي يَنتابني أحياناً ليس على ذاتي بل على كل الفريق الذي يرافقني، وعلى أهلي، لكن ذلك لا يمنعني من الاستمرار. فأنا صلة الوصل بين الأرض والناس وواجبي المهني يقضي بنقل ما يحدث. لكن التحدي الأكبر الذي يواجهنا كصحافيين هو الموضوعية. فالحربُ على أرضنا وناسنا، والنازحون الذين يتعرّضون للغارات والموت ودمار بيوتهم هم أهلُنا، والعدو عدو بلدنا، ولذا يجد الصحافي صعوبةً في الحفاظ على موضوعيته، وعليه التغلّب على مشاعره لوصف الأمور كما هي. لكن رغم ذلك، وبسبب هول ما يرونه فإن بعض المراسلين لا يتمالكون أنفسهم فتخونهم التعابير وينهارون على الهواء مباشرة».
أبوحيدر لا تنصّب نفسها واعظةً على الهواء أو محلّلة سياسية تعبّر عن أفكارها. تترك مشاعرها لنفسها وتنقل الصورةَ التي تراها أمامها لكنها في الوقت نفسه تقول «أسعى إلى إيجاد التوازن بين نقْل الحقيقة كما هي وعدم الاستفزاز. فنحن في وضعٍ استثنائي وثمة فريقٌ يمكن أن يشعر بأنه مهزوم ولذا لا يمكنني أن أستفز فريقاً هو شريكي في الوطن وله مؤيدون كثر».
في تغطيتها تحرص على الالتزام بالقوانين اللبنانية من جهة وبالشرعات الإنسانية وأخلاقيات المهنة من جهة أخرى، فلا تُظْهِرُ الوجوه والجثث والأشلاء انطلاقاً من حسّها الوطني والإنساني. كما تحرص على محاربة التضليل الإعلامي فلا تنجرّ أمام أخبارٍ تُطلق على مواقع التواصل وتتأكد من أي خبر قبل نشْره أو تغطيته عبر شاشة محطتها.
الخبر الصاعق عن العدوان على الصحافة في حاصبيا تلقّته بترا في الساعة الخامسة صباحاً حين وصلتْها رسالةٌ على هاتفها من شخص من الجنوب يَطْمَئِنّ عليها ظناً منه أنها هناك: «قرأتُ السطر الأول ولم أستطع إكمال البقية. أكثر من 18 وسيلة إعلامية موجودة هناك وكلهم زملاء لنا وبينهم أصدقاء مقرّبون، الخبر هَزَّني وأَحْدَثَ عندي صدمةً رافقتْني طوال اليوم، وحالاً من الحزن والخوف على زملائي. لكن رغم كل شيء لابد أن نستمر في نقل الواقع مهما تكن التضحيات».
صلابة على الشاشة و... بكاءٌ مؤجَّل
زهراء فردون... إذا فُرضت عليها الشهادة فـ «أهلاً بها»
تلاحق الأحداثَ على الخطوط اللاهبة وتواكب مآسي الناس، تَسبق المسعفين إلى أمكنة الغارات، تُعايِنُ الدمارَ وتسمع بكاء الناجين وصرخاتهم وتعاين جثث الضحايا التي تُنتشل من تحت الردم. تضع دمها على كفها لتنقل حقيقةَ ما يجري، لا ترضى أن تكون متفرّجةً بل تقاوم بعملها وتغطيتِها لِما يحصل من إجرامٍ لا يَتصوّره عقل. إنها زهراء فردون مراسلة محطة «الجديد» التي تُسابِقُ الحدَث.
زهراء التي تبدو وكأنها في اختبارٍ دائم لمعنى الحياة والموت قالت لـ «الراي»: «أنا بطبيعتي أخاف جداً لكنني أواجه خوفي ولا أقول إنني أتخطاه. في أي لحظةٍ يمكن لصاروخٍ أن يَسقط علينا، ومسيّرةُ الاستطلاع تصول وتجول فوق رؤوسنا ترصدنا طوال الوقت، وتنخفض أحياناً إلى مستوياتٍ مُقْلِقَةٍ وكأننا أمام هجومٍ مباشر ووشيك. ورغم هذه الأخطار أقوم بالدور الذي ارتضيتُه لنفسي والذي وُلدتُ من أجله وهو الصحافة ونقْل كلمة الحق. حين يُضطرني العملُ إلى النوم في أمكنةٍ خطرة أرتدي ملابسي تحت ملابس النوم وألتحف بالغطاء علّه يحميني وأتلو الشهادة. أرتدي الخوذة والدرع لأُقْنِعَ نفسي بأنني محمية، لكنني أدرك جيداً أنهما لا يؤمّنان الحماية من فظائع العدو. إلا أنني أتحدى خوفي لأوصل صوتَ المناطق التي تتعرّض للاعتداء. لا أطلب الشهادة فأنا أحب الحياة، لكنني مؤمنةٌ وإذا فُرضت عليّ فأهلاً بها بكل إيمان وتسليم بمشيئة الباري».
في حارة صيدا كانت على الأرض لتغطية أخبار الغارة الأولى التي أوقعت العديد من الشهداء، وإذ بغارةٍ ثانية تقع على بُعْدِ أمتار من مراسلة «الجديد» التي روت «أن المشهد تَحَوَّلَ من الغارة الأولى إلى الثانية، وصرنا نحن الحدَث. بدأتْ الاتصالاتُ تنهال عليّ للمغادرة لكنني لم أستطع ذلك، فالحدَث هنا وعليّ تغطيته. وكانت طائرةُ الاستطلاعِ فوْقنا ترصدنا وكان ذلك من الأوقات التي شعرتُ فيها بخوفٍ كبير».
ومِن أكثر المشاهد إيلاماً التي كانت زهراء «شاهداً» عليها الغارة التي أصابتْ محيط مستشفى رفيق الحريري في بيروت: «الدمارُ والموتُ وصرخاتُ الأمهات اللواتي ينادين أطفالهنّ تحت الردم، ومشهدُ الناس المذهولين. هذا كان أقسى من أن يُحتمل، نقلتُ رسالتي بتَماسُكٍ وصلابةٍ، فأنا لا أحب أن أدمع أمام الكاميرا لكن حين وصلت إلى سيارتي لم أعد أتمالك نفسي وانهرتُ باكية».
لكن الواقع الأكثر وَجَعاً الذي يحزّ في قلب زهراء كان مشهد النزوح الكبير من الجنوب في ذاك اليوم المشؤوم. «هؤلاء أهلي وناسي فأنا من بلدة العباسية الجنوبية، أهلُ كرامةٍ وعِزّة نفْس، وَجدوا أنفسهم بلا مأوى ينامون على الأرض ورغم ذلك يشكرون الله رافعين الرأس لا يشكون جوعاً ولا برْداً ولا تشرداً. منظرهم آلمني ربما أكثر من منظر الأشلاء والجثث».
وقالت المراسلة التي لم تفارق الشاشةَ رغم أهوال الحرب وأخطارها ان «خبر استهداف الصحافيين في حاصبيا أوجعني وزادَ من خوفي لأنه كان رسالةً واضحةً من الإسرائيلي بأنه قادِرٌ على استهداف كل واحد منا وان الإنذارات التي يوجّهها في المناطق ما هي إلا حِبْراً على ورق في ما هو قادر على أذيتنا حين يشاء».
زهراء شاركت في التغطية التلفزيونية من الرقة يوم كانت عاصمة «دولة داعش» وتعاملتْ مباشرة مع نسائها، واختبرت الخوفَ والخطرَ، لكن «كل ذلك لا يُقارَنُ بالعدو الإسرائيلي الذي لا يَرحم ولا يحترم كلمته، هنا الخوف أضعاف الأضعاف ولا سيما حين يحلق الموت فوق رؤوسنا على شكل مسيرة استطلاع».
لم تكن هذه الإعلامية تتوقّع أن تنطبع حياتَها المهنية بهذه التجربة المؤلمة في الحرب على لبنان «لم يكن أحد يتوقّع أن نعيشها، ولّدت فينا حزناً جماعياً وغمرتنا بالخوف». حين تنام ليلاً ينتابها شعور مؤلم «أدرك أن الدنيا يمكن أن تنتهي بلحظة. أفكر بأمي وأبي وخوفهما عليّ، وأسمع رسائل أمي الصوتية توصيني بالانتباه من الفوسفور والقصف... أحزن جداً لأنني كتلة مشاعر وحنان، يحزنني منظر القطط تحت الردم وأشفق على هذه الأرواح الموجوعة، وأتمنى ألا أكون انا الحدَث في يومٍ ما، لكنني أتابع المهمة التي ولدتُ لأجلها».
بين العراق وسورية واليمن، تَنقَّلتْ المُراسِلَة يمنى فواز على خطوط النار وأكثرها سخونة. خُطِفَتْ في سورية وكادت تُقتل، وفي إدلب عاشت ظروفاً قاسية وسط الخطر والقصف. في العراق نامت في معسكرٍ للجيش وكانت شاهدة على هجمات «داعش» و«جبهة النصرة»، وفي اليمن حوصرت في الفندق يومين وسط القتال. ورغم كل هذه الأهوال تبقى حربُ لبنان الحالية هي الأصعب، واستهدافُ الصحافيين الذي عاشتْه في حاصبيا هو الأقسى.
«عملتُ في أمكنةٍ كان الخطرُ يحدق بها من كل جهةٍ، لكن هذه الحرب مختلفة لا خطوط حمر فيها» قالت يمنى مراسلة تلفزيون «MTV»، فـ «لا مكان آمناً، وحتى التغطية الصحافية يَمنع العدو إتمامَها ويجعل الصحافة أهدافاً سهلة يخشى الناس الوجود بالقرب منها. فغالباً ما تُخصص مساحةٌ آمِنةٌ للصحافيين يستحيل التعرّض لها إلا إذا أصيب الصحافي أثناء تغطيته لمنطقةٍ خطرة، لكن استهدافَ صحافيين كما حصل في حاصبيا أثناء نومهم وبتوقيتٍ خبيث متعمَّد فتلك جريمة موصوفة. التوقيت كان مقصوداً حتى لا نتمكّن من الاتصال بأحد ليلاً. انتظرنا من الثالثة والربع حتى الثامنة صباحاً لنتمكّن من المغادرة. تواصلتُ مع (اليونيفيل) الذين طلبوا منا أرقام السيارات المُغادِرة، لكننا خشينا أن يعرف بنا العدو ويستهدفنا واحداً واحداً عبر أرقام سياراتنا. وتواصلتُ مع وزارة الإعلام والنقابة البديلة ومع مؤسساتنا الإعلامية، واستطعنا التواصلَ مع الصليب الأحمر وكان اصرارُنا على بث رسائل مباشرة رغم ما عشناه من رعبٍ وذلك لإخبار العالم بما جرى معنا ولادراكنا أن البث المباشر يحمينا من اعتداءات أخرى».
جثة تتدلى... من السقف
وروت فواز لـ «الراي» اللحظات التي حلّت كالكابوس يوم الغارة الإسرائيلية على حاصبيا التي استهدفتْهم خلال نومهم: «استيقظتُ على دوي انفجار وكان السقف يَتساقط من فوقي. تَحَسَّسْتُ جسدي لأرى إن كنتُ مازلتُ حية وخفتُ ألا أبقى كذلك إذا قُصفنا مرة ثانية. كانت كمية الردم هائلة من حولي، وحين استطعتُ أن أنفضَ الغبار عنّي هرعتُ بملابس النوم أفتّش عن زميلي المصور هادي حنا. حينها سمعتُ الناطور وزوجته يصرخان بشدةٍ، مشيرين إلى وجود جثةِ رجلٍ تتدلى من سقف غرفتهما. حاولتُ تهدئة المرأة وبدأنا ننادي بعضنا البعض لنتأكد مَن مِنا مازال حياً، وكأنه فيلم رعب نعيش أحداثه. عرفْنا أن الصاروخ أصاب البيتَ الذي يسكنه مراسلو الميادين والمنار وأن المنازل القريبة منه تَضَرَّرَتْ بشدة. ولولا أن سقوف المنازل كانت من القرميد لَما بقي بيننا أحياء. كان المشهد مرعباً، الدماء والغبار في كل مكان، والمياه تسيل من العيون والأنوف والكل في حالة صدمة، فالمكان كان آمِناً نسبياً، والحياة في حاصبيا طبيعية، ولا وجود حزبياً فيها، وفجأة وجدْنا أنفسَنا في أحضان الموت والدمار خائفين من غارة ثانية ومرتبكين وسط العتمة المطلقة. وبدأ الشباب بإزالة الركام واضطررنا لدخول الغرفة التي تتدلى الجثة من سقفها للتأكد من هوية الشخص. مشهدٌ لن أنساه ما حييتُ. كان نصف رجل، أشلاء معلّقة. صورةٌ مفجعة مازالت تلاحقني».
لم يرتجف صوت يمنى رغم ما عاشتْه، وأصرت على بث رسالة من المقر المدمَّر «كنت أتأنى بكلماتي نتيجة الصدمة والغضب. انتظرْنا بزوغَ الضوء لنغادر المكان خلْف بعضنا البعض. وهنا بدأتُ أشعر بألم في ساقي كنت قد تجاهلتُه سابقاً لأخرج بتغطية مباشرة وأخبر العالم ما حصل معنا، وحتى الآن يرافقني الألم في رأسي وجنبي».
هل هي القوة أم الإنكار؟ نسأل مراسلة الـ«MTV» عن حالها وهي المُصِرّة على المضيّ بعملها الميداني، فتجيب: «أتفاجأ بعد كل ما مررتُ به بقدرتي على الاستمرار. هل هي القوة أم الإنكار؟ لا أخفي أنني لا أنام جيداً وأستعيد في بالي مشهد الأشلاء والسقف يتناثر عليّ وصار صوتُ أي شيء يتكسر أمامي اليوم يعيدني إلى الصوت ذاته. في داخلي غضب يجعلني أستعيد كيف تمّ استهدافنا ومنْعنا من أداء عملنا. حتى في غزة استطاعوا إيصال الصوت، ونحن هنا عاجزون عن إتمام تغطيتنا. إنا اخترتُ النزول إلى الميدان، ونَقْلُ الحقيقة قضيتي، ومستحيل أن يعيقني شيء، لكنني أحياناً أتساءل كما أشار لي أحد الأصدقاء إن كنتُ قد استهلكت حظي. شكلتْ لي هذه الحادثة ما يشبه نقطةَ تحول في حياتي وجعلتْني أفكر وأعيد النظر. صرتُ أفكر بمَن يحبونني والأذى الذي يمكن أن يعانوه، لكنني مقتنعةٌ بأنني إذا قررتُ الاستمرار فلابد أن أكون على خط النار. فهذه خبرتي، وبسببها تم استدعائي إلى الميدان. لكنني واجهتُ الموتَ وخرجتُ منه فهل يحق لي أن أختبر حظي مرة أخرى»؟