... بين كونه مناورة جديدة لاستيعابِ ضغوط الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس جو بايدن وتَفادي أي «صُداع» سياسي - ديبلوماسي في الطريق إلى تَسَلُّم الرئيس المنتخَب دونالد ترامب منصبه بعد 70 يوماً، وبين أنّه يعكس مسعى جدياً لإطفاء أو أقلّه «تبريد» كرة النار المتدحرجة في غزة ولبنان فتنطلق ولاية الخلَف في 20 يناير وكأنها على «صفحة بيضاء» أو على مشارف وضْع نقطة في آخِر سطر الصراع المتعدد الجبهة في المنطقة.
حَدّان حَكَما القراءةَ بين سطور المناخِ الذي أشيع بقوةٍ أمس ولا سيما من تل أبيب عن تَزايُد فرص التسوية في لبنان بقيادة (موفد بايدن) آموس هوكشتاين العائد إلى بيروت وتل أبيب وبتشجيعٍ من ترامب، وعن خطوط فُتحت مع روسيا كي تكون (مع الولايات المتحدة) «ضامنة» الحلّ في شقّه المتّصل بمنْع معاودة تسليح «حزب الله» (عبر الحدود السورية خصوصاً)، في الوقت الذي كانت المجازر تتنقّل في المناطق اللبنانية وأكثرها فظاعة في علمات (جرود جبيل) حيث سقط ما لا يقلّ عن 27 شخصاً بينهم أطفال.
وتَقاسَم هذا المناخ المشهد مع الوقائع الميدانية التي لم يَخفّ لهيبُها كما مع الترقّب العالي لِما سيصدر عن القمة العربية - الإسلامية المشتركة غير العادية التي تُعقد في الرياض اليوم بدعوةٍ من المملكة العربية السعودية لبحث استمرار العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية ولبنان وتطوّرات الأوضاع في المنطقة، وسط اعتبار أوساط مطلعة أن هذه المحطة ستؤشر لسقف التعاطي العربي مع مرتكزات وقف النار في «بلاد الأرز» كما مع المطلوب من بيروت لضمان «خروج نهائي» من نَفَق «سِباق البدَل» بين حربٍ... تُسلّم أخرى.
تفاهُم روسي - أميركي!
ولم تهدأ التحرياتُ أمس عن «القُطَب المَخْفية» وراء ضخِّ أجواء عن ارتفاع حظوظ بلوغ تَفاهُمٍ حول وقف حرب لبنان وصولاً لنشْر مسودّة الاتفاق قبيل عودة هوكشتاين مع حرصٍ على تسريبِ أن ترامب يريد انتهاء هذه الحرب حتى قبل دخوله البيت الأبيض، وأنه يتواصل مع إدارة بايدن وطلب اتخاذ الخطوات الضرورية نحو بلوغ التسوية، وأن هذا ما دَفَعَ إلى معاودة تكثيف الاتصالات على خطين:
الأول يتولاه هوكشتاين في اتجاه بيروت، والثاني يقوده وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر الذي توجّه إلى واشنطن في زيارة لأيام ذُكر في تل أبيب أنها لإجراء «مشاورات نهائية» حول «ترتيبات التسوية» في «بلاد الأرز»، وسط تقارير إسرائيلية عن تسوية وشيكة محتملة.
وتَرافَقَ ذلك مع كشْف «إذاعة الجيش الإسرائيلي» أن ديرمر أجرى الأسبوع الماضي زيارة سرية لروسيا سعياً للتوصل إلى تسوية مع لبنان وأن «من المتوقع أن تلعب روسيا دوراً مهماً» في اتفاق محتمل لوقف النار، إذا تم التوصل إليه بين إسرائيل و«حزب الله»، لـ«ضمان تغيير الوضع في لبنان ومنْع تسليح حزب الله».
ويَشي هذا الحِراك بسيناريو يعبّر عن مسعى يحاول الربط المبكّر مع «أوعية متصلةٍ» باتت قائمة مع فوز ترامب في الرئاسة، وتبدأ بأن الخطوط الحمر التي لم يكن ممكناً لإسرائيل تَجاوُزها في لبنان إبان ولاية بايدن لجهة التوسع في العمليات خارج مناطق «حزب الله» أو «بنك الأهداف» المرتبط به، ستصبح أشدّ مع ترامب الذي يقيم على وعْد بإنهاء الحرب في أسرع وقت، ولا تنتهي بأنّ موسكو التي «ترتاح» لعودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض وقد «تأخذ» في حرب أوكرانيا، وإن ضمن حدود، قابلة لأن «تعطي» في ملف حرب لبنان انطلاقاً من علاقتها مع إيران والقدرة التي أثبتتها منذ «طوفان الأقصى» على تحييد النظام السوري عنه وقبْل نحو 11 عاماً كانت «راعية» تنفيذ ما اتضح أنه تفاهُم روسي – أميركي غير معلَن على «نزْع الكيماوي السوري».
وتحت سقف هذا السيناريو ذكرت «القناة 12» العبرية أيضاً أن الحكومة الإسرائيلية «تدرس بجدية خيار التوصل إلى اتفاق لوقف نار موقت مع حزب الله، في ظل المخاوف الجدية في أوساط صناع القرار في تل أبيب من احتمال صدور قرار من مجلس الأمن الدولي قد يقيّد بشكل كبير حرية إسرائيل العسكرية».
وأوضحتْ أن التقييمات في إسرائيل تثير سيناريو مفاده بأن مجلس الأمن «قد يتقدم قريباً بقرار دراماتيكي يدعو لوقف فوري للقتال في غزة أو يفرض قيوداً صارمة على أنشطة الجيش الإسرائيلي في جميع الساحات» وأن «كبار المسؤولين في القدس يعربون عن قلقهم إزاء احتمال أن تمتنع الولايات المتحدة هذه المرة عن استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية المصالح الإسرائيلية في مجلس الأمن».
علاوة على ذلك، «فإن التقدير بين كبار المسؤولين هو أن التعقيد السياسي والضغوط الدولية قد تستمر، بل وتشتد، حتى بعد دخول ترامب البيت الأبيض».
كما تم تسريب أن المؤسسة الأمنية في تل أبيب تقدّر «أن إسرائيل تقترب من تحقيق الأهداف على الجبهة الشمالية ميدانياً، كما هي محددة في أهداف الحرب في الحكومة، وأن المسؤولين يعتقدون أن من المناسب الآن تحقيق إنجازات الجيش الإسرائيلي في التسوية السياسية، التي ستعيد سكان الشمال إلى منازلهم»، وأن ثمة تقديراً بأنه «حتى لو تم التوصل إلى اتفاق لوقف النار في نهاية المطاف، فإن إسرائيل ستحافظ على حقها وقدرتها العملياتية على الرد بقوة في حالة حدوث انتهاكات من «حزب الله».
ضغط أميركي
وفيما جاء ما نشرتْه «يديعوت أحرونوت» عن أن الولايات المتحدة جمدت تنفيذ صفقة شحنة عسكرية إلى إسرائيل عبارة عن 130 بلدوزراً أو جرافات عسكرية نوع «كاتربيلر»، طراز «دي 9» وقد دفعت إسرائيل ثمنها و«أن الحظر الجزئي، الذي تفرضه واشنطن على توريد الأسلحة إلى إسرائيل، يؤثر على ساحة المعركة في غزة ولبنان، وقد يشكل خطراً على جنود الجيش الإسرائيلي» ليعزّز السيناريو الذي يعتبر مجمل هذه العناصر مشجّعة على التفاؤل بإمكان بلوغ تسوية قبل تسلم ترامب منصبه على عكس التقديرات بأن بنيامين نتنياهو لن يسلّف إدارة راحلة ما رفض منحه إياها على مدى أشهر، إلا أن معطيات أخرى حتّمت محاذرة الانسياق وراء المناخات المفرطة في الإيجابية.
وإذ رأتْ أوساط تَعتمد سيناريو الحذَر الشديد حيال الأجواء التي تُشاع أن «خوف «تل أبيب من قرارات في مجلس الأمن لا يتماشى أولاً مع سلوكياتها تجاه العديد من القرارات التي أبقتْها حبراً على ورق، اعتبرت أن انجراف إدارة بايدن في سياسة»نكاية«مع نتنياهو لدرجة عدم استخدام»الفيتو«في مسارٍ على عَكْس رغبة تل أبيب مستبعَد، لا سيما أن هذه الإدارة منحت إسرائيل تفويضاً شبه مطلق في حربها في الأشهر الماضية، وثمة مَن لا يَتوانى عن اعتبار أنها يمكن أن تذهب في تغطيةِ المَزيد مِن تشدُّده تجاه إيران قبل 20 يناير كي تَخرج»بإنجازٍ إستراتيجي«يمكن أن ترمّم معه ولو جزءاً من الصورة الكارثية التي تهشّم معها الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية».
وفي تقدير الأوساط أنه ينبغي أيضاً عدم التقليل من احتمال أن يكون نتنياهو في «المرحلة الانتقالية» الأميركية يحاول كسب الوقت وتقليل الضغوط المحتمَلة من إدارة بايدن، عبر ضخّ أجواء إيجابية لا ترتكز على أسس صلبة، وسط مناخاتٍ متجددة عن أن هناك مَن يجادل بين وزراء حكومته «بأن الإنجاز في جنوب لبنان يجب أن يتعمق الآن».
وفي الوقت الذي أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن «علينا أن نواصل العمل معاً ونستثمر النتائج في تغيير الوضع في جبهة لبنان»، حَمَل كشْف نتنياهو أنه تحدّث مع ترامب 3 مرات في الأيام القليلة الأخيرة مشيراً إلى أنه متفق معه إزاء «التهديد الإيراني» مؤشراً بالغ الأهمية حيال أنه ليس في وارد التراجع عن تشدُّده حيال طهران واستطراداً «حزب الله».
اعترافات نتنياهو
وفي رأي الأوساط نفسها أن مَن يسعى إلى حلّ وشيك كان بإمكانه تفادي الاعتراف للمرة الأولى رسمياً بتنفيذ إسرائيل عملية تفجير أجهزة «بيجر حزب الله» وأجهزة الايكوم في 17 و 18 سبتمبر الماضي، موضحاً أنّ هذه العملية إضافة إلى اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصرالله، تمت رغم معارضة كبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية.
ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن نتنياهو بشأن تفجير البيجر «لم أصغ إلى التحذير بأن واشنطن ستعارض العملية»، متهماً خلال جلسة للحكومة جهات في جهاز الأمن والمستوى السياسي بالاعتراض على عملية البيجر واغتيال نصرالله.
كما قال إنّ «هناك وزراء عارضوا قرارات كنت أؤيدها مثل قتل حسن نصرالله ودخول رفح»، إلا أنه دافع عن قراره مؤكداً «تحملت المسؤولية كاملة لتنفيذ هذه العمليات»، معتبراً أنّه «تم تنفيذ الأوامر باعتبارها جزءاً من الدفاع الاستباقي عن أمن إسرائيل».
مسودة الاتفاق!
ولم تقلّ إثارة لعلامات الاستفهام مسودة الاتفاق التي تم تسريبها عبر صحيفة «يسرائيل هيوم» وفيها أنّ «اتفاق وقف النار في لبنان يتضمّن انسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني، وينصّ على عدم عودة حزب الله إلى الحدود».
وبحسب الصحيفة فإنّ «الجيش الإسرائيلي سينسحب من الجنوب اللبناني إلى خطّ الحدود الدولية ضمن الاتفاق»، كما سيكون لإسرائيل «حق العمل ضد أي انتهاك من لبنان والرد عليه مستقبلاً»، وأن سورية «ستكون مسؤولة عن منْع نقل السلاح من أراضيها إلى لبنان» وأن تل أبيب «ستتلقّى ضمانات أميركية وروسية بمنع إعادة تسليح حزب الله»، فيما سيعمل «الجيش اللبناني على تدمير البنية التحتية المتبقية لحزب الله على الحدود».
وتشكّل هذه البنود في جوهرها ولا سيما «حقّ العمل ضدّ أي انتهاك من لبنان والرد عليه مستقبلاً» بمثابة لغم في أي اتفاق في ضوء رفض لبنان و«حزب الله» ومن خلْفه إيران له، وهو ما يَشي بصعوبة تصوُّر تفكيك الأفخاخ في أي اتفاق خلال فترة وجيزة، رغم انطباعٍ بأن ترامب لن يحبّذ انفجار كرة النار أكثر وانتقالها إلى «بين يديه» ما يطرح إشكالية تتمثل في ما الذي سيسدّ الفجوة العميقة بين طموحات تل أبيب من أي تسوية وموقف الحزب منها وتالياً طهران رغم أن الأخيرة لاقت بدورها انتخاب الرئيس الجمهوري، الذي سبق أن «جرّبتْه» على مدى 4 أعوام بالغة القسوة عليها، بما يشبه «إعادة التموضع» خلف «خط رجعة» حفظته بتعليق الكلام عن التراجع عن عقيدة النووي كما الضربة التي توعّدت بها اسرائيل.
بري لن يتنازل
وكان لافتاً أمس توقُّف رئيس مجلس النواب نبيه بري، المفوّض من «حزب الله» التفاوض حول حلٍّ، عند «الرسائل التي وُجهت إليه من خلال استهداف بلدته تبنين بمجملها، ومن ضمنها حي آل بري»، معدداً منازل أقربائه التي تم تدميرها ومن بينها منزل شقيقته، إلا أنه أكد أن «الضغط عليه لن ينفع في دفعه إلى التنازل عن ثوابت الموقف اللبناني».
وشدد في تصريح صحافي على «التمسك بوجوب وقف النار فوراً وتنفيذ القرار 1701 بلا زيادة أو نقصان»، لافتاً إلى «تعمد الاحتلال الإسرائيلي مسح عدد من البلدات الجنوبية الواقعة عند الحافة الأمامية، فالعدو يريد أن تصبح المنطقة الحدودية التي تجاور فلسطين المحتلة غير صالحة للسكن، لكنني أؤكد أنه فور انتهاء الحرب سيعود الأهالي إلى بلداتهم المدمرة وسيقيمون فوق ترابها وأنقاضها بانتظار أن يعاد بناؤها».
وفي موازاة ذلك، لم يحمل الميدان إلا مزيداً من الاشتعال والمجازر وكأن أكثرها إجراماً التي استهدفت بلدة علمات في جبيل، في الوقت الذي نفذ «حزب الله» سلسلة عمليات نوعية أبرزها ضد قاعدة شراغا شمال عكا وموقع «أفيتال» للاستطلاع الفني والإلكتروني في الجولان المحتل.