نسجت العناكب خيوطها على جدرانها، وزحف التراب على أرففها، مُعلناً موتاً سريرياً للمكتبات العامة، لتتحول من مصانع للعقول والأفكار، إلى بيوت للأشباح.
وبالتوازي مع إعطاء الرواد ظهورهم لتلك القبلة المهجورة، نشأت حالة من الجفاء بين الأجيال الجديدة والكتب والقراءة، ما دعا عدداً من المفكرين والكُتّاب، إلى قرع أجراس الإنذار عبر «الراي»، للتحذير من عواقب حالة «التفريق بغير إحسان» بين المكتبات العامة ومحبيها، داعين إلى تدارك ما يمكن عمله من تطوير هذه المكتبات، لتواكب العصر ومستجداته، في زمن باتت لغته السائدة هي الذكاء الاصطناعي.
ورثى المفكرون والكُتّاب الحال التي وصلت إليها مكتبات البلاد، مستذكرين ماضياً جميلاً كانت فيه المكتبات العامة مزدحمة جداً بجميع الأوقات، ففي الفترة الصباحية يرتادها كبار السن والمتقاعدون لتمضية وقت جميل، وما بعد الظهر تستقبل الطلبة والباحثين والدارسين، أما في فترة المساء فكانت غالباً لطبقة المثقفين والأدباء، ومن تمنعهم أعمالهم من ارتيادها صباحاً.
روى في عقده الثامن حكايته مع مكتبة الشامية
عادل العبدالمغني: التطور التكنولوجي الرهيب
انعكس سلباً على المكتبات وارتيادها
سرد الأمين العام الأسبق لرابطة الأدباء الأديب والدبلوماسي الدكتور عادل العبدالمغني لـ«الراي»، ذكرياته مع المكتبات، خصوصاً مكتبة الشامية، فقال «بعد أن جاوزت السبعين عاماً من العمر، بدأت ذكريات الماضي الجميل تنساب بذاكرتي مثل الفيلم السينمائي، وشاهدت بمخيلتي بجلسة استرخاء (مكتبة الشامية العامة)، وهي من أولى المكتبات العامة التي افتتحت بعد استقلال الكويت في 1962 بمنطقة الشامية خارج المدينة القديمة».
وأضاف العبدالمغني «كُنت بذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر وطالباً في المرحلة المتوسطة، ولدينا بالمدرسة نشاطات ثقافية وأدبية ومجلات حائط وغير ذلك ولا استغناء عن ارتياد المكتبات العامة». وتابع «كانت مكتبة الشامية الواحة الغناء والغذاء الفكري والروحي، ليس فقط بما يجده القارئ من ألوان من مختلف الكتب، وإنما بما يجده من الصحف اليومية والعربية والمجلات الأسبوعية والشهرية للاطلاع على الأخبار والأحداث وصفحات الأدب والثقافة والمقالات مجاناً للرواد».
العبدالمغني، صاحب عشرات الكتب، أشار إلى أن «المكتبات العامة كانت بذلك الوقت مزدحمة جداً في كل الأوقات، ففي الفترة الصباحية يرتادها كبار السن والمتقاعدون لتمضية وقت جميل، وما بعد الظهر من هم على شاكلتي من الطلبة والباحثين والدارسين، وأما في فترة المساء فكانت غالباً لطبقة المثقفين والأدباء ومن تمنعهم أعمالهم من ارتياد المكتبة بالفترة الصباحية».
وعن أنشطة المكتبات في ذلك الوقت، قال «كانت تقيم ندوات وأمسيات ثقافية وأدبية، وتدعو من صدر له كتاب جديد ليتحدث عن كتابة ويسأله ويناقشة الحضور وأيضاً تتم دعوة آخرين من الأدباء والشعراء للتحدث عن أعمالهم ونشاطاتهم».
وبين أنه «بعد ذلك تدريجياً بدأت أعداد رواد المكتبات العامة تتناقص وقت ظهور الفضائيات، ثم جاءت مرحلة دخول أجهزة الإنترنت والآيباد والهاتف المحمول الذي يتيح الدخول إلى فضاء رحب من المعلومات، وأيضاً إلى أي مكتبة في العالم والمرور على أرففها والاطلاع والقراءة، وهذا التطور الرهيب -لا شك- أثر على ارتياد المكتبات والجلوس بداخلها للقراءة».
6 أسباب
عدّدت مصطفى 6 أسباب لهجرة المكتبات العامة:
1 - طبيعة العصر الذي نعيش فيه، فالحياة المادية أصبحت تسيطر على الناس، وبالتالي تنحسر تبعاً لذلك المتع الروحية والتي تمثل القراءة مصدرها الأهم بعد الدين وشعائره.
2 - الاعتماد على الإنترنت بشكل غير مسبوق مما سهّل الحصول على المعلومة.
3 - توفر الكتاب الإلكتروني وبإخراج مبهج وخطوط مميزة وتصميم جذّاب.
4 - العزوف عن القراءة من الشباب، وأتى ذلك تزامناً مع وجود المواقع المصوّرة والمسموعة مثل (اليوتيوب والبود كاست).
5 - ظهور منصات الكتاب المسموع وهي منافِسة قوية للكتاب الورقي لأن القارئ أصبح يسمع كتاباً كاملاً وهو يقود سيارته وهذا يوفر الوقت.
6 - ضعف اللغة عند الجيل الجديد فصارت القراءة عنده عملية شاقة.
منى مصطفى: إلحاق جزء إلكتروني بالمكتبات العامة
أكدت مستشارة التربية الأسرية منى مصطفى أن «نجم المكتبات العامة زها في العقود الخالية، لكنه بدأ يخفت في أيامنا خفوتاً شديداً، حتى أوشك على الانطفاء، ولو كانت المكتبة إنساناً لصاحت بأعلى صوت (كنت قِبلتكم، فلماذا تصعّرون خدكم لي الآن؟)».
وأضافت «أرجو أن نعين شبابنا على الاهتمام بالقراءة، وأن نطوّر مكتباتنا العامة بإلحاق جزء إلكتروني بها، وبإحداث ثورة توعوية بين صفوف الشباب للارتقاء بلغة الحسن والبيان، فهي التي توسّع مداركك وتيسر عليك اكتساب جميع العلوم الأخرى»، متسائلة «أرأيتم عالماً مكيناً وهو عييٌّ سكوتٌ لا يجيدُ كتابةَ فقرة رائقة بلغته الأم؟!».
«المكتبة كانت دائماً للنخبة ولم تكن مكاناً يرتاده العامة»
أحمد الصراف: نحن بالأساس شعوب لا تقرأ
قال الكاتب أحمد الصراف «نحن بالأساس شعوب لا تقرأ، من قبل الإنترنت واستخدام الهاتف الذكي، وعندما تم إنشاء المكتبات لم يصاحب ذلك تغيير في منهج المدارس أو الخطاب التوعوي الديني»، معتبراً أن «المكتبة كانت دائماً مكاناً للنخبة، ولم تكن مكاناً يرتاده العامة».
وأكد الصراف، لـ«الراي»، أن «مشكلة عدم ارتياد المكتبات مشكلة عالمية، والحل يكمن في تحويلها لمكتبات إلكترونية وتوفير الإنترنت فيها للشباب، لجذب المرتادين لأن إدارة المكتبات التقليدية شيء وإدارة المكتبات العصرية أمر آخر».
ولفت إلى أن «عدد زوار المكتبات قل في كل دول العالم، لكن عندنا أصبح شبه معدوم، وهذا أمر لا يُسأل عنه القراء، لأن كتب المكتبات العامة قديمة وموضوعاتها مملة، وليس بها ما يشجع الإنسان والغبار يملأ الأرفف».
وشدد على أنه «ليس من المنطقي أن يكون الفتح والغلق هو نفسه توقيت المؤسسات الحكومية»، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن «الآثار السلبية لهجرة المكتبات لا عد لها، وفي دولنا هذه الآثار أكثر حدة أما في أميركا وأوروبا فهي أفضل حالاً».
وخلص الصراف إلى أن «هجرة الكتاب أساس لكل المشاكل، وأمتنا لم يكن الكتاب رفيقاً لها طوال تاريخها. فنحن أمة شفهية، نتزوج شفهياً ونطلق شفهياً، ونورث شفهياً. وهجرة المكتبة جزء من مشكلة أكبر».
«نأمل التوسع في أنشطتها وتطوير حساباتها الإلكترونية»
طلال الرميضي: نثق في قدرة مسؤوليها على تفعيلها
أشار رئيس رابطة الأدباء الأسبق الروائي طلال الرميضي، إلى أن «تقلص دور المكتبات العامة بسبب قلة المرتادين بات ملاحظاً، ومن المفترض أن تكون هذه المكتبات مصدر إشعاع ومنبعاً ثقافياً».
وقال الرميضي، لـ«الراي»، إن «هذه المكتبات تساهم في تثقيف المجتمع بشكل عام، وفي السابق كان يصدر عنها الكثير من الأفكار، وكانت مصدراً لتطور الأنشطة»، ضارباً المثل بـ«النادي الأدبي الذي يعد من أقدم مؤسسات المجتمع المدني في الكويت ونشأ من رحم المكتبات».
وذكر أنه «في السابق كان هناك نشاطات مختلفة، مثل نشاط أصدقاء المكتبة الذين جمعتهم حالة من التلهف للقراءة وانتظار الكتب الجديدة، بعكس الواقع الحالي الذي أصبحت فيه هذه النشاطات قليلة وشبه متوقفة، باستثناء مكتبة الكويت الوطنية». وعن الحلول الممكنة، قال الرميضي،«نتمنى أن يتم التوسع في الأنشطة، وتطوير حسابات مواقع التواصل الاجتماعي لتلك المكتبات لتعلن عن الزيارات والعناوين الجديدة».
وذكر أنه «يجب للمكتبات العامة أن تستمر كوجهة لطلبة الدراسات العليا، ونحن نثق ثقة كبيرة في القائمين عليها في قدرتهم على تفعيلها وتنظيم مواسم ثقافية في مختلف المحافظات في الكويت كما كان الأمر في الماضي».