كانت طبيعة الأحداث العالمية والمحلية ومجرياتها خلال العقود الستة الماضية دافعة لكل عاقل - فضلاً عن داعية - مسلم يعرف أن الشرع الحكيم أمر بمراعاة المصالح والمفاسد، والقوة والضعف، والقدرة والعجز، ويعرف أيضاً أنه شرع حفظ الصالح العام لتحقيق الأمن والاستقرار من خلال إقالة عثرات ذوي الهيئات، وعظم أمر الدماء المعصومة والحرمات الشخصية كالعرض والعقل تعظيماً بليغاً - كانت دافعة للتفكير من أين أتانا الخلل؟ من أين أوتي العمل السياسي الإسلامي حتى صار ينفر منه أكثر الناس؟ ولماذا هذه الدماء وهذه الأشلاء في العواصم العربية؟ من الذي تسبّب في تصور أكثر الشباب المسلم الطيب الخلوق، الحريص على مجتمعه، النافع لأبناء وطنه، أنه قد دخل في صراع صفري مع أكثر أبناء وطنه؟ فلابد له أن يكسب كل ما يريد أو يخسر كل ما في يده، بل ما في أحلامه؟! ما الذي تسبب في تشويه صورة المسلم صاحب الهيئة الإسلامية لدى الناس؟
ولا شك أننا إذا أمعنا النظر في الخطاب المستخدم في أدبيات كُتب ومؤلفات الأحزاب وركزنا على خطب ساحة الإرادة وميدان رابعة من بعض رموز العمل النيابي، ومن تحالف معها كان له أكبر الأثر في اقتناع الشباب بهذه الطريقة الثورية في التفكير، والوصول إلى القناعة بجاهلية المجتمع التي تعني التكفير عند طائفة والتوقف عند آخرين؟ بسبب الغلو في تضخيم الأخطاء ثم بضرورة الصدام والعنف مع الحكومة، وما يتضمن ذلك من فوضى بتدمير للعباد والبلاد - وإن كان التدمير لمن يصادم أضعافاً مضاعفة بل الصراع محسوب العاقبة سَلَفاً عند العقلاء. كانت هاتان القضيتان التكفير والعنف غير ظاهرتين على الإطلاق في خطابنا النيابي، طيلة أكثر من أربعين سنة منذ مشاركتهم في الصحوة الإسلامية، مما استغربه ولا يزال الكثيرون، بل وربما رأوا ذلك من غيرهم، والبعض الآخر يحمّلهم مسؤولية نشوء هذا الفكر في مجتمعنا، وأنهم مصدر جماعات التكفير والعنف المعاصرة. وهذا، ما زلت أذكر مراجعات جماعة (عبود الزمر) 1992 التي أعلنت انسحابها من العنف وتبنيها العمل السياسي حيث انتقد تجربة (الإسلام السياسي) وطالب بتقييم أدائهم والتعامل مع الواقع والتراجع عن موقع الصدارة.
وكانت هناك حاجة ماسة للبحث المنصف والموضوعي، التاريخي المرتبط بالشرعي لهذه المسألة، ليعالج الأمر من جذوره، ولتتضح الصورة التي حيّرت الكثيرين وأوقعتهم في اضطراب في مواقفهم وآرائهم وربما غيّروا بسببها قناعات ظلوا عليها عشرات السنين في مناهج الإصلاح. والتي تخالف منهج الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
وبطبيعة الحال نحن نعيش اليوم في زمن اختلف جذرياً عما هو قبل تسعين عاماً، فقد تبدلت الأنظمة والحكومات. والشعوب (عادت حليمة لعادتها القديمة) ولعل الثورجية مازالوا بعقولهم بحلبة المصارعة يثيرونهم باللون الأحمر لينطح الجدار؟
وهذا هو الصراع الصفري!