حين نتحدّث عن ذكريات المدرسة لجيل الثمانينات، نجد أن أول درس في اللغة العربية - «أنا آكل وأشرب» - كانت جزءاً لا يتجزأ من تلك الحقبة الزمنية التي رافقت الكثيرين كذكرى لا تنسى من حياتهم. لكن يبدو أن هذا الدرس، رغم بساطته، قد ترك أثراً نفسياً عميقاً على مواليد الثمانينات، الذين باتوا اليوم يعيشون حياة مليئة بالتحديات، وما زالوا يرددون «أنا آكل وأشرب» في داخلهم بطرق مختلفة.
هذا الدرس يلخص: فلسفة البقاء البسيط
في البداية، كان «أنا آكل وأشرب» درساً بسيطاً يُعَرِّف الصغار بأولى خطوات اللغة، لكن اليوم أصبحت فكرة فلسفية راسخة في عقولهم. الرسالة واضحة: نحن هنا لأبسط الحاجات. وهي الأكل والشرب. قد تبدو الفكرة سطحية، لكن يوجد في باطنها عمق يعلّمنا شيئاً مهماً جداً أننا بحاجة للبساطة. في كل شيء البساطة في بالفعل. والبساطة في ردة الفعل والبساطة بالعيش والبساطة في طلب الحاجة والبعض أيضاً أخذها بالبساطة في الطموح والتطلعات، ورغم كل تلك الجُمل البسيطة ذات القيم العالية. أهم قيمة بكل هذا بأن الحياة ليست معقدة كما نعتقد، وأننا، في النهاية، نحتاج فقط إلى الأساسيات.
ولان ما سبق صار جزءاً من تركيبتهم النفسية. أجيال الثمانينات، بفضل هذا الدرس، اعتادوا على تقدير التفاصيل الصغيرة في الحياة. لذا، نجدهم غالباً في جلسات استرخاء، يرددون: «أهم شي، نأكل ونشرب ونعيش بسلام». هذا الانطباع البسيط خلق لديهم ميلاً فطرياً نحو التمسك بالبدهيات والتركيز على الأشياء البسيطة كوسيلة للتغلب على التعقيدات.
لكن ماذا حدث عندما كبر جيل الثمانينات؟
بدأت الصعوبات والمسؤوليات تتزايد، ووجدوا أنفسهم في سباق مستمر مع متطلبات الحياة. كلما ازدادت التحديات والمسؤوليات زاد القلق لديهم. وصراع حياة البساطة والحياة المعقدة. وكل ما تعقدت الأمور عندهم وجدوا ملاذهم في درس «أنا آكل وأشرب» كوسيلة للترويح عن أنفسهم، وكأنه ملاذ للهروب من الضغوط. هذه العبارة أصبحت شعاراً لكل موظف يقول لنفسه في يوم عمل طويل: «كل هذا عشان آكل وأشرب؟».
كل هذه التحديات لهذا الأمر، ما المعنى من كل ذلك؟ وهنا وقع البعض في عالم الاكتئاب نتيجة الصراع بين التعقيد والبساطة والرغبة العالية وعدم القدرة على تطوير الإمكانات وهكذا، تحول الدرس البسيط إلى تذكير ساخر بأن الحياة مليئة بالتعقيدات، رغم أن احتياجاتنا الأساسية لم تتغير.
ولكن انتصر المفهوم أخيراً.
رغم كل ذلك، بمرور الزمن، أدرك جيل الثمانينات أن مفهوم «أنا آكل وأشرب» هو دعوة للاستمتاع باللحظة وتقدير البساطة وسط زحمة الحياة ومتطلباتها، أصبح هذا الدرس البسيط بمثابة نصيحة ثمينة تدعوهم للابتعاد عن المبالغات. فقد وجدوا في هذه العبارة دعوة إلى التوازن، والعودة إلى الذات، والبحث عن السلام الداخلي من خلال تقدير الأساسيات. فمن الجميل أن يكون لدى المرء ما يذكّره بأن الحياة ليست دائماً بحاجة إلى تعقيد، وأن السعادة قد تكمن في كوب قهوة دافئ أو وجبة شهية.
ونجدهم أحرص جيل على التأمل والراحة والاستمتاع حتى لقبوا بالجيل الذي لا يكبر مع التقدم بالعمر. ويزداد جمالاً أيضاً في رحلة التقدم هذه.
أعرف أنه إلى اليوم أنَّ جيل الثمانينات يتذكر «أنا آكل وأشرب» بشيء من الحنين، وربما بشيء من السخرية أيضاً. هذا الدرس البسيط علّمهم أن السعادة في أحيان كثيرة تأتي من الأشياء البسيطة، وأن الحياة قد تكون معقدة، لكن احتياجاتهم الأساسية - «الأكل والشرب» -ورغم أن الجملة هذه درس طفولي، لكنها اليوم، بالنسبة لجيل الثمانينات، تمثل فلسفة كاملة: أنَّ بساطة الحياة وقيمتها الحقيقية في أبسط الأشياء.
وأخيراً، بختام ساخر: «محد ربّح المطاعم كثر جيل أنا آكل وأشرب».
تحياتي.