لم يَسبق لانتخاباتٍ رئاسية أميركية أن وُضعتْ تحت المجهر في لبنان والمنطقة، في ضوء الإسقاطات المُسْبَقَة على نتائجها بوصْفها ستتيح استشرافَ مآلاتِ «حرب الجبهات السبع» التي انفجرتْ مع «طوفان الأقصى» وتشي بموجاتٍ أعتى من العنف الذي يُخشى أن يحوّل الإقليمَ «ملعب نار» بحال خرجت المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران عن السقوف القابلة للاحتواء، هي التي يشكّل أحد محرّكاتها الرئيسية عدم قدرة طهران على «تَحَمُّل» فقدان ذراعها الأقوى «حزب الله»، وعدم إمكان تسليم تل أبيب بـ «إيران الأخطبوطية».

وكما العالم بأسْره، أَسَرَتْ مشهديةُ الثلاثاء «التاريخي» في الولايات المتحدة، لبنان، حيث نافس تَرَقُّبُ لونِ الدخان الذي سيلفّ البيت الأبيض في ختام الانتخابات، الأزرق الديمقراطي أو الأحمر الجمهوري، غبار الغارات الإسرائيلية التي تمدّدت مجدداً إلى منطقة الجية، ساحل الشوف، وعمليات «إبادة» القرى على الحافة الحدودية بعمق نحو 3 كيلومترات وعلى امتداد نحو 100 كيلومتر من الناقورة حتى الخيام.

وفيما كان «تَحرّي» مَن سيفوز في انتخاباتٍ أميركية تَجري على خط انقسام عميق سياسي ومجتمعي، عمودي وأفقي، أقرب إلى البحث عن جوابٍ بين أوراق الأقحوان: دونالد ترامب، كامالا هاريس... فإنّ المنطقةَ بدت هذه المرة وكأنّها في تَفاعُلٍ على خطيْن مع هذا الاستحقاق، متأثِّرةً بنتائجه المنتظَرة ومؤثِّرة في مجرياته، خصوصاً عبر الدور الحاسم للصوت العربي في «الولايات الأرجوانية» (المتأرجحة) ولا سيما ميتشيغن، وسط تَحَوُّل حرب غزة و«لبنان الثالثة» وأهوالهما عاملاً رئيسياً سُمع «صوته» في الصناديق التي ساد حبْسُ الأنفاس هل ستَعْلو فيها الرغبةُ بـ «لحاقِ» الرئيس السابق في وعوده بإحلال السلام، أم الخشيةُ من أن يأخذ بنيامين نتنياهو «جرعة تنشيطٍ» لماكينة الدم والدمار بحال فاز «المرشّح المفضَّل» لديه أقلّه في الشهرين الفاصلين عن حفل التنصيب.

وأبعد من انتخاباتٍ مدجَّجةٍ في ذاتها بعناصر تَجعلها من الأكثر صخباً واحتداماً ورصْداً لِما إذا كانت ستجعل هاريس أول رئيسةٍ لبلاد «العم سام»، أم ينجح ترامب في أن يكون ثاني رئيسٍ في تاريخ الولايات المتحدة يعود إلى البيت الأبيض مرّتيْن غير متتاليتين، فإن بيروت والمنطقة جعلاها «تحت الرادار» باعتبار أن مسارَها يمكن أن يحدّد مصيرَ الحرب المفتوحة على جبهة لبنان خصوصاً التي تحوّلتْ «جاذبةَ صواعق» في ضوء معطييْن:

- الأول مجاهرة نتنياهو بأن أهدافَه النهائية هي إنهاء «حزب الله»، ما لم يكن بالضربة القاضية المستحيلة، فبآلياتٍ يكون هو «بوليصة التأمين» في ضمان تنفيذها وتتيح ما يشبه «الموت البطيء» للحزب عبر «قطع الأوكسيجين» عنه من سورية وإيران ومنْع إعادة تسليحه.

- والثاني المراوغةُ في ما خصّ الاكتفاءَ بـ «تقليم أظافر» إيران الخارجية أو الاستعداد للذهاب حتى النهاية نحو ما يعتبره «خزان الخطر الوجودي» على إسرائيل، وهو ما جعل طهران تعطي إشاراتٍ إلى استعدادٍ للمواجهة حتى النهاية، لتصفيح الأرض التي يقف عليها الحزب كما لإرساء «مناخ ردع استباقي» عبر تفعيل «الوعد الصادق 3» وإعلان الاستعداد للردّ المعقّد والموجع على الضربة الإسرائيلية عليها.

وبأي حال، فإن «تَقَفّي آثار» المعركة الرئاسية الضارية في الولايات المتحدة لن يَطول، لتتكشّف ارتدادات فوز إما هاريس التي تسلّمت «عصا» الترشح عن الحزب الديمقراطي بعد ما بدا «ميني سباق بدَل» خيض في داخله نحو البيت الأبيض بدأ مع بايدن وانتهى مع نائبته، أم ترامب الذي انخرط عن الجمهوريين مكرّساً العودة عما لاحَ في 2020 وما تلاه من ملاحقات قانونية له «خط النهاية» السياسية لواحد من أكثر الشخصيات إثارة للجدل والذي عاد «من بعيد» لينافس على مفاتيح الرئاسة against all odds.

ولم يكن عابراً أنه في الوقت الذي كانت الانتخابات تجري، مضت إدارة بايدن في مواكبةٍ حثيثة للحرب في غزة ولبنان، وهو ما عبّر عنه تكثيف وزير الخارجية أنتوني بلينكن «ديبلوماسية الهاتف» في اتجاه المنطقة، والتقارير عن احتمال عودة الموفد الرئاسي آموس هوكشتاين إلى إسرائيل وربما بيروت الأسبوع المقبل.

واعتُبر إبقاء واشنطن الدفعَ الدبلوماسي لعملية البحث المضنية عن وقف نار يمهّد لتسوية نهائية في غزة ولبنان، في إطار الرغبة في حفظ «خط الرجعة» إلى بؤرة النار الآخذة في التمدّد وبالزخم نفسه الذي ساد عشية الانتخابات، وذلك في حال انتصرت هاريس، وفي الوقت عيْنه توجيه رسالةٍ بأنّ المرحلة الانتقالية الفاصلة عن 20 يناير، موعد التسليم والتسلم بين بايدن وترامب (إذا فاز الأخير) لن تكون «فترة ميتة» دبلوماسياً، رغم الاقتناع بأن أي خسارة للمرشحة الديمقراطية ستجعل مهمة هوكشتاين محكومةً بتشظياتها وتعمّق عدم واقعية تَصَوُّر أن «يهدي» نتنياهو حلاً لـ «إدارة منتهية الصلاحية» ما لم يكن حزب الله وإيران قررا «الاستسلام» لشروطه التي كان أبلغها إلى الموفد الأميركي الأسبوع الماضي حين حمل إليه مسودة ورقةٍ مع ملحق جانبي (بين واشنطن وتل أبيب).

ومن هنا يتم التعاطي مع الأجواء التي تُضخ إسرائيلياً عن احتمال بلوغ تَفاهمات خلال أسابيع على أنها تعبيرٌ عن «جرعة زائدة» من الإفراط بالثقة بالقدرة على فرْض التسوية بالنسخة التي يريدها نتنياهو، وسط توقف أوساط سياسية عند ما أوردته صحيفة «يديعوت آحرونوت» أمس، من أنه «في الطريق إلى التسوية، تم إحراز تقدم في المحادثات، خصوصاً في ما يتعلّق بصوغ الوثيقة الجانبية التي سترافق الاتفاق، والتي ستضمن حرية العمل العسكري لإسرائيل في جنوب لبنان في حال فشل آلية إنفاذ وقف النار»، وهو الملحق الجانبي بين واشنطن وتل أبيب والذي رغم أن «لا كلمة» مباشرة للبنان فيه إلا أنه يصعب أن يسير بصيغةِ «اتفاقٍ بلسانيْن» واحد معلَن ينطق بلغة تطبيق القرار 1701 بكامله وفق الرؤية اللبنانية وثانٍ بحبر سرّي يمنح تل أبيب حرية إكمال ما لم ينتهِ في الميدان «بيده».

سحب ألوية عدة

وفي حين كشفت «يديعوت أحرونوت» أيضاً أن الجيش سحب ألوية عدة من جنوب لبنان، مشيرة إلى أنه على خلفية تقييم المسؤولين المشاركين في المفاوضات لبلوغ تسوية في الشمال «فإن التوصلَ إلى اتفاقٍ ممكنٌ في غضون أسبوع ونصف الأسبوع إلى أسبوعين، ولذلك قام الجيش بسحب ألوية من جنوب لبنان لإنعاش العملية البرية» التي توقّعتْ «أن تستمرّ لبضعة أسابيع أخرى»، اعتبر وزير الدفاع يوآف غالانت أن الجيش في «موقف متفوّق، وعليه له الحقّ بفرض شروطه».

وصرح لصحيفة «فاينانشال تايمز» بأن «إنجازاتنا تضعنا في موقف قوي لمطالبة حزب الله بأن يقوم بالدفع بقواته بعيداً كما نريد لشمال نهر الليطاني»، مؤكداً «لا يمكننا وفق منطلقاتنا أن نقبل بأي وجود عسكري إيراني في سورية المجاورة لنا، ونحن بحاجة إلى وقف نقل السلاح من إيران عبر سورية والعراق إلى لبنان إلى يد حزب الله».

وفي وقت عَكَستْ المواقفُ الإسرائيلية ثباتاً على شروط وقف النار التي لن يسلّم بها لبنان، ولا بطبيعة الحال إيران، وسط كلام لافت للزعيم الدرزي وليد جنبلاط لصحيفة «النهار» اعتبر فيه «أن من اغتال السيد حسن نصرالله عرف ماذا فعل، فقد ألغى المُحاوِر الداخلي، وقد أصبحت إيران هي المُحاوِر في لبنان»، مع دعوته إلى «التمييز هنا بين حزب الله وسياساته، والطائفة الشيعية، وهي ليست بالضرورة منحازة إلى إيران، وأكبر دليل أن الرئيس نبيه بري له زعامته وكيانه التاريخي (...)»، مضى الجيش الإسرائيلي في استهدافاته الجوية التي طاولت أمس، إلى الجنوب والبقاع، منطقة الجية حيث أغار الطيران على مبنى دُمر الطابقان الأخيران منه ما أدى لوقوع 7 جرحى، فيما نجا طلبة مدرسة مجاورة (مدرسة مار شربل) أصيبت بأضرارٍ وتحدثت تقارير عن أنهم كانوا غادروها قبل وقت قصير.

37 بلدة «مُسحت عن الأرض»

أوردت «الوكالة الوطنية للاعلام» الرسمية أنه «في إطار الحرب التدميرية التي يشنّها العدو الإسرائيلي على لبنان عموماً والجنوب خصوصاً، والغارات والأعمال العسكرية التدميرية، يقوم جيشه بتفخيخ وتدمير أحياء في مدن وبلدات بكاملها، بحيث ان أكثر من 37 بلدة تم مسحها وتدمير منازلها وأكثر من 40 ألف وحدة سكنية دمرت تدميراً كاملاً، وهذا يحدث في منطقة في عمق ثلاثة كيلومترات تمتد من الناقورة حتى مشارف الخيام».