تنعقد قمة مجلس التعاون مطلع الشهر المقبل، ويزدان البيت الخليجي في الكويت بأبهى حُلل التضامن والتماسك، خصوصاً أن المواقف بين مختلف دول الخليج تقاربت إلى درجة غير مسبوقة بعد إجماع قادتها على ضرورة صيانة الأولويات الوطنية، واعتبار الإنسان ومصالحه ورفاهيته مصدراً أساسياً للقرارات السياسية والاقتصادية، والارتكاز على التنمية معبراً إلزامياً للمستقبل، والتوازن في السياسات الخارجية حفظاً للدور وتوسعةً للمصالح، وتوجيه رسائل إلى من يهمه الأمر أنّ القرار هنا والمبادرة هنا... و«أهل مكةَ أدرى بشعابها».

جدول أعمال القمم الخليجية يكاد يكون متشابهاً ومتحركاً مع المستجدات والتطورات. سأقصر الحديث عن بلد نعشقه جميعاً كخليجيين، وكان مصدر إلهام وشغف لنا، واعتبرناه فعلاً بلدنا الثاني، وجامعة العرب ومستشفى العرب ومصرف العرب وسياحة العرب وتجارة العرب... عن لبنان المنكوب والجريح أتكلم، ولكن ليتحمّل صراحتي أهلي وأحبتي هناك.

لا شك في أن القمة الخليجية ستبحث موضوع لبنان وما دمره العدو الإسرائيلي وحرب الإبادة التي تطول البشر والحجَر، ولا شك في أن العمليات الإسرائيلية هناك تعكس حقداً تجاه بلد كان يشكّل النقيض لإسرائيل في التعايش والتعددية والانفتاح، وإلا فكيف نفسر ضرب أهداف تراثية وسياحية؟

مَن بدأ الحرب ومن استدرج، ومن أخطأ ومن لم يخطئ، ومن ربط المسارات ومن خرَق القرارات، ومن أساء التقدير؟... كلّها أو غيرها أمور أُشبِعت تعليقاً وجدلاً، وانجلى غبارها على استشهاد وإصابة الآلاف، ودمار شامل أحدثه القصف الإسرائيلي المستمر بدعم دولي تاريخي، غابت فيه المبادئ وماتت الضمائر.

نُقل عن مسؤولين لبنانيين، أن التّكلفة الأولية لإعادة الإعمار في لبنان في حدود 15 مليار دولار، وأنه في اليوم التالي للحرب - الذي نتمنى أن نراه لوقف هذا النزيف - سيجول مسؤولون لبنانيون على دول الخليج؛ لبدء حشد حملة تمويل لإعادة إعمار ما تهدّم... وهنا نقطة نظام، أو بالأحرى نقاط نظام، نتمنى على أهلنا في لبنان التوقف عندها.

العهْد اليوم عندنا مختلف، في الكويت وفي كل دول الخليج، وأهم ما يميز هذا الاختلاف عن سابقه أن الجميع يتعاملون بالعقل أكثر من العاطفة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بقضايا متكررة خضعت للتجارب وأهدرت ما أهدرت من طاقات وموارد.

نحن بالطبع أول من يتمنى على قادتنا في اجتماعهم المقبل العمل بلا هوادة على وقف للنار في لبنان في حال كانت العمليات الإسرائيلية مستمرة، والعمل على إعادة إعمار لبنان الذي نعتبره رئةً نتنفس منها كل ما هو جميل، وقلباً ينبض بثقافة الحياة في أصعب الظروف. لكن العطاء المفتوح بلا تعهدات لا طائل منه... بل أكثر من ذلك، كان هذا العطاء عنصراً مساهماً في تكريس الفساد وتمادي الفاسدين، وبدل أن يبني ما تدمّر ساعد في تدمير ما بقي من هيكل الدولة.

هل نبالغ؟ أبداً. الطبقة السياسية اللبنانية التي حكمت في السنوات الأخيرة بكل ألوانها هي مَن تبادلت التهم، وأخرجت وثائق ضد بعضها تتحدث عن هدر وسرقة جزء كبير من هذه الأموال. طبقة سياسية اغتنت وأرصدتها بالمليارات، فيما غابت عن الدولة الشفافية والحوكمة والحدود الدنيا للإصلاحات. ووصل الأمر ببعض اللبنانيين إلى اعتبار أن مال الخليج النظيف استُخدم في المساومات التنفيعية القذرة.

لم يختفِ جزء كبير من أموال إعادة الإعمار فحسب، بل أكملت الطبقة السياسية الحاكمة نهجها على الناس العاديين الذين تبخرت أرصدتهم الشخصية في المصارف نتيجة السياسة المالية والعامة لما بقي من دولة تناتشتها مصالح رموز طائفية سيطرت على القرار... وهنا أنا أسأل اللبنانيين وليس الخليجيين: هل تثقون بهذه الطبقة السياسية لإدارة أموال إعادة الإعمار عندكم؟

نتمنى على قادتنا في قمتهم الخليجية ألا ينسوا لبنان، وألا يبخلوا بالمال لإعادة إعمار ما تهدم، فالمال هنا مثل الدم في الشرايين يُحيي الجسد العليل؛ ليستعيد عافيته. ومَن أحقُّ منّا بإعادة الروح إلى هذا البلد وأهله؟ ولكن يجب أن تكون المساعدة مترافقة مع المقتضيات التالية:

من دون تجاهل أن العدو الإسرائيلي لا يطبّق القرارات الدولية، إلا أنَّ على لبنان أن يطبِّق هذه القرارات؛ حفظاً لاستقراره مع إيجاد آلية دولية لحلول دبلوماسية لمواضيع مثل ما بقي من ترسيم بري تماماً، كما حصل في الترسيم البحري. وكذلك القرارات التي تنصّ على حصرية السلاح في يد الجيش وقوى الأمن.

الانطلاق نحو إعادة بناء دولة مقوماتها الشفافية والإصلاح والمحاسبة وسيادة القانون... وهنا يجب أن يتوقف انتهاك الدستور والشروع في انتخاب رئيس للبلاد يشرف على إعادة تنظيم المؤسسات وفق ما تقتضيه ضرورات المرحلة.

عدم العودة إلى سياسة خارجية تابعة لمحور معين، والالتزام بالمحيط العربي. ورغم أن الوقت غير مناسب، إنما السؤال الجائز: ماذا استفاد لبنان من لغة التصعيد والوعيد والتخوين ضد أشقائه؟ وهل كان ذلك لمصلحة البلد؟

أن تتولى الدول الخليجية والدول الأجنبية الصديقة المانحة مباشرة موضوع الإشراف على مساعدات إعادة الإعمار وفق آلية دولية شبيهة بالآلية التي يقوم بها الصندوق الكويتي للتنمية. أي أنْ تُعاين وتخطط وتنفّذ وتراقب، ولا تترك هذه المسؤولية للطبقة السياسية اللبنانية.

في الختام، لبنان يستحق كل خير. صحيح أن الدول لم تعُد جمعيات خيرية، ولكنّ الأصح أن مقتضيات إعادة الإعمار هي في العمق إعادة لإعمار دولة طالما تمنى اللبنانيون أن تقوم. هي لحظة تاريخية رغم قساوة حرب الإبادة... وعلى اللبنانيين التقاطها.