يطمح الكثير من شباب الجيل الحالي بعمل مشروعٍ تجاري يضخ فيه ماله وجهده وفكره ووقته، طامحاً أن يعود عليه بالربح في المستقبل العاجل أو الآجل، وهو ما تعارف عليه الناس باسم المشاريع الصغيرة التي قد تدار من قبل أفراد أو مجموعة أفراد، تنقسم المهام والوظائف بينهم لإدارة مشروعهم الصغير، الذي يعتبر صغيراً نسبياً إذا ما قورن بالشركات الكبيرة والعريقة في المجال ذاته، أو أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، أو تلك التي تديرها حكومات ومنظمات.
إنّ المشاريع تتنوع وتختلف مجالاتها، فليس بالضرورة أن يكون المشروع من النوع التجاري لتطلق عليه كلمة مشروع، فهناك مشاريع أخرى أيضاً لكنها ثقافية أو علمية أو غيرها...
وإن كانت المشاريع الثقافية هي ما أود تسليط الضوء عليه في مقالي هذا، فالمشاريع الثقافية منها ما قامت عليها دول ومؤسسات وجامعات ومراكز أبحاث وصرفت عليها أموال طائلة لدراستها أولاً قبل البدء بتنفيذها، واختير لها نخب علمية وقامات فكرية، وفي المقابل هناك مشاريع ثقافية صغيرة يقوم عليها فرد أو مجموعة أفراد، آمنوا بالفكرة وجنّدوا طاقاتهم ومواهبهم لدراسة ذلك المشروع الثقافي الذي عدوه حلمهم بل ومشروع حياتهم الذي من خلاله يضعون بصمة في صفحات البشرية العلمية والمعرفية، وربما من وجهة نظري أن فرق الثمرة والعوائد بين المشروع التجاري والثقافي أنه غالباً ما ينتهي الأول مع نهاية حياة صاحبه، أما المشروع الثقافي فغالباً ما ينتشر ويُؤتي أُكله بعد موت صاحبه، فيكون قد أدى ما عليه ليأتي من يكمل مسيرته أو يبحث في تراثه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، قضى المفكر المصري أحمد أمين، سنينَ من عمره في دراسة مشروعه الثقافي الذي درس فيه التاريخ الإسلامي من الجانب العقلي الفكري، ليخرج لنا بدراسة عظيمة تفسر لنا الكثير من الأحداث والوقائع التي لم نصل إلى تفسير لها، وهو مشروع فردي قد يعتبر ضمن «المشاريع الصغيرة» لأنها فردية ولا تنطوي تحت مؤسسة ما، ولكن اليوم وبعد وفاته بسبعين سنة أصبحت موسوعته المعروفة: (فجر، وضحى، وظهر، ويوم الإسلام) مرجعاً عظيماً للكثير من الباحثين والقراء في المجال الفكري والتاريخي إضافة إلى دراسة حياة أحمد أمين بذاته وطريقة تفكيره ومجالات دراساته.
أعتقد أن المشاريع الثقافية الصغيرة فردية كانت أم جماعية بحاجةٍ إلى اهتمام وإيمان فردي بالرسالة الإنسانية التي ينتجها المشروع، أو الإضافة التي قد يضيفها والتي قد تخضع بعد عقود للنقد والبحث والدراسة من قبل المهتمين والمكملين للمسيرات الثقافية، وإضافة ما يمكن إضافته استكمالاً لما قد يتوصل إليه الباحثون بكل عصر، وهكذا يقضي صاحب المشروع حياته لغايةٍ بعيدةٍ، ولنتاجٍ فكري يستثمر فيه وقته الثمين وهو على قيد الحياة حتى إذا ما قضى أجله جنوا من شجره ثمارها العلمية اليانعة.