راهنوا، وخسروا. ثبّطوا، وتفاجأوا. مَن كان يصدق أن الجماهير العربية طويلة النفس إلى هذا الحد؟ وهي الجماهير المجرَّبة قبلا؛ جماهير غضوب سريعة الاشتعال، وسريعة الانطفاء أيضاً.
رأينا الجماهير العربية تقاطع البضائع الدنماركية في أزمة «يولاندز بوستن» عام 2005، وتقاطع البضائع الفرنسية في أزمة «شارلي إيبدو» عام 2020. ثم عادت ريمة لقائمة التسوق القديمة، تنتهبها الاستهلاكية وتتحكم بها قوى السوق. لكن ريمة -أو الشعوب العربية- أظهرت هذه المرة سلوكاً يستحق الالتفات والدراسة، ليس لأنه ينم عن ثبات وإرادة، بل لأنه ينم عن تغير سلوكي طويل المدى، تغير لا يحدث إلّا لأن هناك أشياء تغيرت في البنية النفسية للإنسان العربي. مؤشر مبشر يستحق الالتفات.
المقاطعة قوة ناعمة، وطريقة مسالمة -لكن فعالة- في إيصال الصوت. بصوت المال أوصلنا أصواتنا. تفرقنا مذاهب عديدة في المقاطعة، لكن جمعنا أمران: الاتفاق على المبدأ، وأدب الاختلاف. البعض أخذ منحنى شاملاً وقاطع كل شيء تقريباً، والبعض قاطع ما استطاع. وفي كلٍّ خير. سادت روح التشجيع لا التشنيع، روح الإِعذار لا الإنكار. وهذا أمر علينا أن نعض عليه بالنواجذ، ففخاخ المتربصين تتمنى لو تدخل علينا من هذا الباب، فيدب الخلاف، وننشغل بالمحاكمة والمحاربة.
ظن البعض أن المقاطعة فقاعة، ظنها صرعة أو «هبَّة» كما نسميها في لهجتنا. قد تكون المقاطعة بدأت «هبّةً»جارفة من هبّات الجماهير، لكنها كونت شخصيتها المستقلة وصارت هِبة! نعم، تحولت المقاطعة إلى هِبة ومكافأة. اسألوا المقاطعين عن جيوبهم، اسألوهم عن صحتهم. رأينا بأعيننا قوماً كانوا مستعبدين للأغذية السريعة، صاروا اليوم دعاة للطعام الصحي. اسألوا أصحاب المشاريع المحلية، كيف حالكم بعد المقاطعة؟ وكم انتعشت تجارتكم؟ وكم موظفاً جديداً وظفتم؟ اسألوا الناس عن إرادتهم اليوم، اسألوهم عن كلمة «لا» التي صاروا يستطيعون أن يقولوها بثقة أكبر، ليس لمشروب غازي أو شوكولاتة وحسب، بل لأي شيء يعارض قيمهم.
يؤلمني أنْ كان في ميدان الرمي بعض أبناء جلدتنا من التجار الذين أثرت المقاطعة عليهم سلباً. هم لم ولن يكونوا هدفاً. يُقال «رأس المال جبان»، لكني أقول إن قلب التاجر شجاع، قلب يعلم أن التجارة نشاط محفوف بالمغامرة والتغيير، نشاط مغموس بالأدرينالين! قلب التاجر حملته أو ستحمله المقاطعة على إعادة حساباته وتبني نشاطات تجارية أخرى يتألق فيها كما تألق سابقاً. هو أيضاً عليه أن يرى المقاطعة بعين مستبشرة، أن يراها رسالة له كي ينهض ويخوض مناطق جديدة يستخدم فيها مرونته وذكاءه، ويغامر بقلب التاجر المغوار.
عقود طويلة مرت ونحن نجلد ذواتنا، ونتذمر من عجز الإنسان العربي، وتفاهة الشباب، واستحالة التغيير. نعيد الأسطوانة المحبطة ذاتها ونرسخها وكأنها حقيقة لا تقبل الدحض. اليوم كُسرت الأسطوانة، وتغيرت النبرة. لا نملك بطولة موازية نردف بها بطولة أهل غزة، لكننا نتماهى معهم، ونستلهم منهم الصمود. صمودهم أمام الموت، علمنا أن نصمد في وجه مغرِيات الحياة. نقول لهم شكراً أنْ حملتمونا على تغيير ما بأنفسنا.
في مثل هذا اليوم قبل عام، كتبتُ في «الراي» مقالة بعنوان «قاطِعْ ولو منحوك الذهب». بعد عام، نكتشف أن المقاطعة هي ما منحنا الذهب. المقاطعة اختبرت معادننا، وظهرت النتيجة المشرّفة: ذهبٌ خالصٌ.
hayatalyaqout@