تُعد الجريمة النفسية أحد أكثر أشكال الاعتداء الخفية تعقيداً، حيث لا يترك الجاني خلفه أثراً مادياً أو دليلاً مرئياً، بل يترك آثاراً عميقة في نفسية الضحية قد يصعب حتى عليها إدراكها. فبدلاً من استخدام القوة الجسدية، يستغل الجاني العواطف والكلمات، ويمارس سطوة نفسية تؤدي بالضحية إلى فقدان الثقة بالنفس والشك الدائم في الواقع من حولها.

على سبيل المثال، نورة، فتاة تعمل في شركة كبيرة ولديها زميل يعمل معها في الفريق نفسه، يدعى بدر.

كان بدر يظهر في البداية دعماً كبيراً لنورة، ويشيد بعملها وإنجازاتها أمام الآخرين، ما جعلها تشعر بالأمان والثقة. لكن، تدريجياً بدأت نبرة بدر تتغير، أصبح يتجاهلها في الاجتماعات، ويرسل رسائل مبطنة تجعلها تشك في كفاءتها. حينما كانت تتحدث عن إنجازاتها، كان يقلل من شأنها بأسلوب ماكر ويجعلها تشعر كأنها تبالغ أو أن إنجازاتها ليست مهمة.

بدر كان يمارس «التلاعب النفسي» أو ما يُعرف بـ«Gaslighting»، وهو نوع من الجريمة النفسية، حيث يجعل الشخص الآخر يشك في نفسه وقدراته، بل وحتى في ذكرياته. كلما حاولت نورة مواجهته كان يستهزئ بها قائلاً «أنتِ حساسة بزيادة» أو «هذا بس في خيالك».

مرّت الأيام، وبدأت نورة تشعر بالتوتر عند الذهاب إلى العمل، وبدأت تفقد الثقة بنفسها. كانت تسأل نفسها «هل أنا حقاً حساسة؟ هل أبالغ في ردة فعلي»؟ حتى أنها بدأت تشعر بالذنب على مشاعرها، وكانت تلوم نفسها بدل مواجهة السبب الحقيقي، وهو التلاعب النفسي الذي تتعرّض له.

ما حدث سابقاً: يدعى جريمة نفسية متكاملة

الضحية: نورة

المجرم: بدر

مكان الجريمة: العمل

الجريمة: التلاعب النفسي

الدليل: تشويش مشاعر نورة مع سبق الإصرار والترصد... وقس هذا على الكثير من حياتك.

مثال:

في علاقة زوجية، قد يقول الزوج لزوجته «أنتِ دائماً تبالغين، هذي أفكارك السلبية، أنت اللي تخيلتِ السالفة».

يبدأ الزوج بإيهامها بأنها تبالغ في كل موقف أو أن تذكرها للأحداث غير صحيح، ما يجعلها تشك في صحة ذاكرتها وثقتها في نفسها.

ما سبق يدعى التلاعب النفسي (Gaslighting):

• يتمثل في جعل الضحية تشك في نفسها، وتبدأ في الشك في ذكرياتها وواقعها، من خلال الإيحاء بأن كل ما تتذكره أو تشعر به هو «مبالغة» أو «خيال».

يستخدم هذا النوع بشكل شائع في العلاقات العاطفية والزوجية، حيث يحاول أحد الطرفين السيطرة على الآخر من خلال التلاعب بوعيه.

مثال آخر:

في علاقة عاطفية، قد يحاول أحد الطرفين إبعاد شريكه عن أصدقائه وأسرته، قائلاً «أصدقاؤك مو مناسبين، لازم نبعد عنهم»، بهدف السيطرة على الشريك وجعله يعتمد عليه كلياً.

ما سبق جريمة نفسية تعرف العزل الاجتماعي المتعمد:

• أي يحدث عندما يتم عزل الضحية عن محيطها الاجتماعي، إما من خلال التهديد أو التلاعب. قد يحدث في العلاقات الزوجية أو العائلية، حيث يسعى أحد الأطراف إلى قطع العلاقات الاجتماعية للشريك ليعتمد عليه بالكامل.

وأيضاً:

في العائلة، عندما يُطلب من الابن تحقيق درجات مثالية في كل المواد، وعندما يفشل في مادة واحدة، يتعرض للوم ويشعر بأنه ليس جيداً بما يكفي.

هذه التوقعات المثالية تجعله يشعر بالعجز والضغوط المستمرة هذه جريمة نفسية تدعى التوقعات المستحيلة:

• في هذا النوع، يضع الجاني توقعات غير واقعية للضحية ولا يرضى بأي نتيجة تقل عن «الكمال»، ما يجعل الضحية تشعر بالعجز والإحباط المستمر.

أما عالم العواطف فتحدث الجريمة في علاقة عاطفية، يقول أحد الطرفين: «إذا ما سويت اللي أبيه، راح أتركك». هذا التهديد العاطفي يُشعر الطرف الآخر بالخوف من الفقدان، ويجعله ينفذ المطالب من باب الخوف لا الرغبة.

وهذا ما يسمى بالتهديد العاطفي:

• يتضمن هذا النوع من الجريمة النفسية استخدام التهديدات العاطفية للسيطرة على الضحية، مثل التهديد بالانفصال أو الرفض إذا لم يستجب الطرف الآخر لمطالب الجاني.

وغيرها الكثير والكثير من الأمثلة في حياتنا الخاصة والعامة الكفيلة بتدمير الإنسان وإنهاء حياته الشعورية بشكل كامل.

لماذا مهماً معرفة هذا الموضوع. لأنه يحمل أثراً كبيراً وانعكاساً أكبر على مجتمعنا.

فالجريمة النفسية تترك أثراً عميقاً لا يظهر للعيان مثل الجروح الجسدية، لكنها تؤثر بشدة على العلاقات الاجتماعية ونفسية الأفراد. يعاني المجتمع من انخفاض الإنتاجية، وتراجع الثقة بالنفس بين الأفراد، وزيادة حالات التوتر والقلق، وقد تصل إلى الاكتئاب.

إذ تتسبب الجريمة النفسية في الشعور بالعجز وفقدان التوازن الداخلي، ما يؤثر على العلاقات الأسرية والمهنية ويضعف من تماسك المجتمع.

ويمكن للجريمة النفسية أن تحدث في أي مكان يتواجد فيه أشخاص يتفاعلون بشكل مستمر، سواءً في العمل أو العائلة أو حتى في علاقات الصداقة.

بعض الأمثلة تشمل:

1 - بيئة العمل: يتعرض الكثيرون في بيئة العمل للتلاعب النفسي من زملاء أو رؤساء يستغلون سلطتهم لإضعاف الثقة أو السيطرة على الآخرين، كما في مثال نورة وبدر.

2 - العلاقات الأسرية: في الأسرة، قد يستخدم بعض الأفراد أسلوب التقليل من قيمة الآخرين أو إهانتهم بشكل مستمر، وهو ما يؤثر على العلاقات العائلية ويعزز الشعور بالعجز وقلة الحيلة لدى الضحية.

3 - العلاقات العاطفية: يستخدم البعض التلاعب النفسي في علاقاتهم العاطفية، مثل الشريك الذي يتعمد إثارة الشكوك لدى الطرف الآخر أو يشعره بالدونية، ما يترك آثاراً نفسية عميقة.

ولأن أهم عنصر بالجريمة هو المجرم، أصبح لابد أن نتعرف عليه ويكون ذلك من خلال معايير وسلوكيات عدة، منها:

1 - التلاعب بالعواطف: يستخدم عبارات تحطّ من قيمة مشاعر الآخرين، ويجعلهم يعتقدون أن ردة فعلهم مبالغ فيها.

2 - التقليل من قيمة الآخر: يعتمد على الاستخفاف بإنجازات الآخرين وتحجيم قيمتهم لإضعاف ثقتهم بأنفسهم.

3 - التسبب في الشكوك: يجعل الضحية تشك في ذكرياتها أو قدراتها، ويستخدم عبارات مثل: «أنت فهمت غلط» أو «هذه خيالاتك».

4 - المراوغة: يميل إلى تغيير الموضوع عند مواجهته ويجعل الضحية تبدو وكأنها هي المخطئة.

5 - اللعب على الشعور بالذنب: يحاول أن يشعر الضحية بالذنب تجاه ردود أفعالها، ويستخدم هذا كوسيلة للسيطرة عليها.

وللتخلص من أثر الجريمة النفسية واستعادة التوازن، يمكن اتباع هذه الخطوات:

1 - التعرف على المشكلة: أول خطوة هي الاعتراف بأن ما يمر به الشخص ليس خطأه، وأنه يتعرض للتلاعب النفسي، ما يمنحه وعياً بما يجري ويقلل من الشعور بالذنب.

2 - التوثيق: كتابة وتوثيق المواقف التي حدثت مع الجاني، فهذا يساعد الضحية على فهم الوضع بشكل أفضل وتجنب التشكيك في مشاعرها.

3 - التواصل مع الآخرين: الحصول على دعم من العائلة أو الأصدقاء المقربين يساهم في تقوية الثقة بالنفس ويُعيد للشخص شعوره بالقيمة.

4 - التحدث مع مختص نفسي: اللجوء إلى مستشار أو مختص نفسي يساعد الضحية على التعافي ويعطيها أدوات فعّالة للتعامل مع الجريمة النفسية.

5 - وضع حدود واضحة: في حال كان الجاني شخصاً مقرباً أو زميلاً، يجب وضع حدود واضحة تمنع التلاعب، وتجنب الانخراط في محادثات تجلب السلبية.

6 - التأكيد على الذات: استخدام التوكيدات الإيجابية لبناء الثقة بالنفس، مثل: «أنا قادر على تحقيق أهدافي» و«مشاعري وأفكاري مهمة».

وختاماً وأخيراً:

"الجريمة النفسية هي خنجرٌ يطعن الروح بلا أثر، جرحٌ ينزف من الداخل بصمتٍ وانكسار. هي معركةٌ خفية، ساحتها المشاعر، وسلاحها الكلمات والمواقف، وأثرها يبقى في النفس كالندوب العميقة. إنّها تحطيمٌ للثقة، وتقييدٌ للحرية، وعزلٌ عن الذات. من يعاني منها من يجد نفسه تائهاً بين الشكّ واليقين، بين الخوف والطمأنينة، بين الصمت والصراخ.

لكن تذكّر، أن لكل ألم شفاء، ولكل جرح نداء. فاستجمع قواك، وابحث عن نورٍ يُعيد إليك ذاتك، واطلب المساعدة إذا لزم الأمر، فالحياة أكبر من أي كابوسٍ نفسي، والشفاء أقرب مما تظنّ، حين ترفع صوتك وتختار نفسك.

وتقرر أن تكون أنت.

تحياتي.