على مر الأعوام، نجحتْ إسرائيل في استهداف العديد من كبار قادة «حزب الله»، ما تَسَبَّبَ بفجواتٍ موقتة بين القيادة العسكرية والسياسية للمنظّمة.

ولعب هؤلاء القادة، الذين كانوا ارتقوا في صفوف الحزب من خلال المشاركة في صراعات الشرق الأوسط السابقة، أدواراً محورية في تطوير إستراتيجيته العسكرية الحديثة.

ورغم ذلك، فإن مرونةَ «حزب الله» تكمن في قدرته على تجديد شباب قيادته والتكيّف حتى في ظل الخسائر الكبيرة. ومع استنفاد إسرائيل لبنك أهدافها من الشخصيات الرئيسية داخل الحزب والمستودعات العسكرية، تولّى جيلٌ جديد القيادة، وهو أقلّ شهرة من القادة العسكريين، مستفيداً من الخبرة والخبرات المتراكمة، خصوصاً من خلال المشاركة في جبهة إسناد غزة.

وبعد سلسلة من الصدمات التي أحدثتْها العملياتُ الإسرائيلية المكثفة، استعاد الحزب زمام المبادرة من خلال تبني إستراتيجية الردع التراكمي.

وشمل هذا النهج سلسلةً من العمليات المؤثرة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.

ونتيجةً لهذا، أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي هيرتسي هاليفي، الذي عارض في السابق أي شكل من أشكال وقف النار، أن «إسرائيل حققت أهدافها في لبنان». وأضاف وزير الدفاع يوآف غالانت أن «أهداف الحرب لا يمكن تحقيقها من خلال الوسائل العسكرية فقط»، ما يشير إلى تَراجُع الشهية لغزوٍ مُكْلِفٍ للبنان.

وصرّح غالانت بأن «حماس لم تعد تعمل كشبكة عسكرية في غزة، وتم تدمير القيادة العليا لحزب الله وغالبية قدراته الصاروخية».

وأضاف أن المجموعتين «لم تعودا الآن أداةً فعالة» لإيران، ما يشير إلى التحول نحو حلّ غير عسكري يمكن أن يجنّب إسرائيل المزيدَ من الانتكاسات على طول الحدود اللبنانية التي يبلغ طولها 100 كيلومتر. ولكن لا هاليفي ولا غالانت، يملكان سلطةَ اتخاذ القرار النهائي، حيث ناقض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تصريحاتهما في مناسبات عديدة.

خطأ قاتل وإستراتيجي!

في ضوء هذه التناقضات، ما الاتجاه الذي سيتخذه غزو لبنان في نهاية المطاف؟

في الإستراتيجية العسكرية، حقق الجيشُ الإسرائيلي أهدافَه: تدمير جزء من ترسانة «حزب الله»، واغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، وقتْل غالبية المجلس الجهادي وإجبار مجلس الأمن على تنفيذ القرار 1701.

بهذه النتيجة، كان بإمكان إسرائيل أن تعلن النصر وكان وقف النار ليعيد المستوطنين إلى مستوطناتهم.

وكان بإمكان نتنياهو أن يعلن النصر، بحق، ويوقف الحرب من دون السماح لقوات حزب الله البرية بإثبات نفسها في ساحة المعركة، وهو خطأ قاتل وإستراتيجي تَجاهَله.

لكن نتنياهو لم يكن يعتقد أن الحزب هُزم فحسب، بل أن تعافيه سيكون مستحيلاً. وكان يظنّ أنه يستطيع أن يضع خططاً للشرق الأوسط بأكمله، كما أعلن.

وتتطلّب هذه الخطة الطموحة الدعمَ الكامل من الولايات المتحدة، وموافقة الحكومة الإسرائيلية، وميزانية كبيرة لتوسيع الجيش، وقوى كافية للتدخل في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط لفرْض أجندة إسرائيل.

لكن رؤية نتنياهو وهاليفي للنصر تصطدم بالجدار الذي أقامْته المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان حيث تمكّن الجنود من دخول العديد من القرى الحدودية على عمق أقل من كيلومترين في قرى حدودية مختلفة بعد نحو خمسة أسابيع من القتال الشرس ولكنهم لا يستطيعون قضاءَ الليل فيها.

وهم يدمّرون غالبية المنازل أو المَساجد على طول الحدود، ما يوجِد أرضاً محروقة تكشف الدبابات وتمنعها من الاختباء أثناء دخول القرى اللبنانية.

منذ أكثر من خمسة أسابيع، تخوض خمس فرق صراعاً مطولاً، في محاولةٍ لاختراق خطوط الدفاع الأولية للحزب، المعزَّزة بوحداتٍ متخصصة.

ورغم هذه الجهود المتعثرة، لم تتوقف القوات الإسرائيلية عن تقدُّمها على طول الحدود اللبنانية، حيث ينتشر حالياً نحو 80 ألف جندي وضابط. وسعى الجيش إلى التقدّم من نقاط دخول إستراتيجية مختلفة في الجبهات التالية:

* الجولان المحتل - شبعا - كفركلا

* العديسة - رب ثلاثين

* ميس الجبل - بليدا - عيترون - مارون الراس

* رميش - عيتا الشعب - القوزح - علما - مروحين - اللبونة - الناقورة

لكن ما أغفلته إسرائيل وحلفاؤها هو أن وحدات المشاة والوحدات الخاصة التابعة للحزب لم يتم نشْرها بالكامل ولم تدخل وحداتٌ كبيرة المعركة بعد.

وعندما أعطي الضوء الأخضر أخيراً للغزو البري، وجدتْ القوات الإسرائيلية نفسَها في اشتباك مع قوات الحزب البرية المدعومة بإسنادٍ ناري مكثَّف ومصمَّم لتعطيل تقدُّم العدو واستهداف خطوطه الخلفية، ما يقلل من زخمه.

ووسعت قوات الحزب الصاروخية عملياتها إلى ما هو أبعد من المستوطنات الأمامية، ووصلت إلى حيفا ومحيطها، وأحياناً تل أبيب كجزء من خطةِ ردٍّ مدروسة بعناية.

وهذا هو السبب في أن الخسائر الإسرائيلية ترتفع في شكل يومي. ومع ذلك، لاتزال هذه القوات بعيدةً عن الوصول إلى «منطقة المعركة الرئيسية» حيث توجد قوات الحزب الدفاعية و«الضاربة».

ويعمل الحزب لإضعاف العدو ومضايقته قبل الانخراط في المعركة الرئيسية، باستخدام تكتيكات الدفاع المتنقّلة والتراجع لكشف أجنحة ومجنبات العدو وضرب رأس حربته المتقدمة بهدف تشتيت قوته القتالية وتدميرها.

وقد سلطت إستراتيجية الردع التراكمي والحرب غير التقليدية، الضوءَ على قدرة المنظمة على الصمود، الأمر الذي أدى إلى تعقيد الأهداف العسكرية لإسرائيل واستنزاف مواردها ومعنوياتها.

ومع استمرار الحرب، يتحمل كلا الجانبين بشكل متزايد تكلفةَ حرب طويلة الأمد واستنزافية ومنْع إسرائيل من فرض شروطها لوقف النار.

وطلبت إسرائيل تعديل قرار مجلس الأمن 1701 عندما زار المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين بيروت أخيراً وحاول إملاء «خطة استسلام».

وبعد فشل الغزاة في اختراق الخط الآمن للوصول إلى خط الدفاع الرئيسي في جنوب لبنان، لم تعد الولايات المتحدة وإسرائيل في موقف القوة وارتكبتا الخطأ الفادح المتمثل في السماح للحزب بإثبات قوته.

ربما لم تَرْقَ أهداف إسرائيل إلى مستوى التوقعات، حيث لم يشعر سكان الشمال على الإطلاق بالأمان الكافي للعودة إلى مستوطناتهم.

وقد أكد نتنياهو ضرورة انتخاب رئيس لبناني جديد، ملمّحاً إلى ضرورة تقليص نفوذ الحزب في السياسة بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، سلطت مصادر استخباراتية ودبلوماسية أميركية الضوءَ على أهمية تهميش الحزب سياسياً، ما يعني أن دوره الإستراتيجي آخِذ في الانحدار.

ومع ذلك، فإن هذا الطموح يعكس المثل القائل «بيع جلد الدب قبل ضمان موته»، حيث قد تُثْبِت هذه الخطط أنها متفائلة بشكل مفرط من دون تحقيق نصر عسكري حاسم على الأرض.

وفاجأت هذه الاستراتيجية القادة الإسرائيليين، حيث غابت الشخصيات السياسية في شكل ملحوظ عن عيون الجمهور بسبب التقارير اليومية عن الخسائر البشرية المتزايدة والمكاسب الإقليمية المحدودة التي حققتْها القوات الإسرائيلية، رغم الدعم الجوي والمدفعي المكثّف الذي كان يهدف إلى تليين المقاومة. ويفرض نهج الحزب ضغوطاً غير عادية على قوات الاحتلال، فضلاً عن المجتمع الإسرائيلي، الذي دَعَمَ تاريخياً العمليات العسكرية في لبنان ما دامت الجبهة الداخلية آمنة وحققت القوات الإسرائيلية انتصارات واضحة.

ولكن يبدو أن التيار يتحوّل ضد نتنياهو. فقد أجبرت التحديات التي يواجهها جيشُه على الأرض ملايين الإسرائيليين، بما في ذلك أكثر من مليون في حيفا وثلاثة ملايين ونصف مليون في تل أبيب، على اللجوء إلى المخابئ، في وقت فشل في تحقيق نصر استراتيجي حاسم.

وقد شكّل الضرر الذي لحق بالمستوطنات الحدودية تحدياً باهظ التكلفة على صعيد إعادة البناء بمجرد انتهاء الحرب، وهو واقع فرض نفسَه.

الانتخابات الأميركية

وتشير المؤشرات إلى أن الحلّ الدبلوماسي ربما يقترب، وإن كان من غير المرجح التوصل إلى حل رسمي قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الثلاثاء المقبل. ويجد نتنياهو نفسَه في موقفٍ حساس، حيث إن منْح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أي ميزة سياسية أو المخاطرة بإغضاب المرشح الجمهوري دونالد ترامب سيكون غير حكيم سياسياً.

ونتيجة لذلك، تكثّف القوات الإسرائيلية والحزب الهجمات والهجمات المضادة، بهدف تعزيز مواقعها قبل المفاوضات النهائية لحل الصراعات في غزة ولبنان.

من جانبه، رفض حزب الله بشدة فكرة التفاوض على وقف النار حصرياً للبنان. ويصرّ على ربط جبهتي لبنان وغزة.

في الخلاصة، كلما اشتدت المقاومة التي تواجهها قوات الاحتلال في جنوب لبنان ـ وكلما ازدادت الضغوط التي تتعرض لها على الجبهة الداخلية ـ اقتربتْ احتمالات التوصل إلى حل دبلوماسي.

ولكن مع كل تصعيدٍ، تشتدّ وتيرة القصف والدمار، في حين يسعى كل من الجانبين إلى تعزيز مواقفه التفاوضية.