لطالما اعتقد الناس أن الصوت مجرد إحساس يصلنا عبر الأُذن، لكن الواقع أن بعض الأصوات قد تحمل في طياتها ما هو أكثر من ذلك، إذ تنطوي على تأثيرات عميقة على صحة الإنسان النفسية والجسدية.

في هذا المقال، سنتناول واحدة من تلك الحالات التي قد تكون غير مألوفة للبعض ولكنها تؤثر بشكل كبير على حياة الكثيرين: متلازمة الحساسية من الصوت أو ما يُعرف بـ«الميسوفونيا».

ماذا يعني. ذلك؟

يعنى أننا لو أدخلناك قصة ندى التي تفضل الجلوس في الأماكن الهادئة. وكانت تحب قراءة الكتب في صمت، والاستمتاع بكوب من الشاي دون أن يعكر صفوها أي شيء. لكن شيئاً غريباً كان يحدث أخيراً؛ صوت مضغ الطعام في المكان أصبح كابوساً يطاردها. كلما جلست إلى طاولة مع أسرتها أو زملائها في العمل، شعرت بأن هذا الصوت الصغير يضرب أعصابها كالسهم. في البداية، حاولت تجاهله، ولكن كل مرة كانت تشعر بأن القلق والغضب يتصاعدان بداخلها بشكل غير طبيعي. أصبح الأمر يزعجها لدرجة أنها كانت تترك المكان بسرعة، أو تحاول الابتعاد قدر الإمكان.

لم تكن ندى تدرك أن ما تمر به ليس مجرد انزعاج طبيعي. فحينما زارت أخيراً طبيباً نفسياً بعدما نصحها أحد أصدقائها، اكتشفت أنها تعاني مما يُعرف بـ«متلازمة الحساسية من الصوت» أو الميسوفونيا. الطبيب شرح لها أن دماغها يتفاعل مع هذه الأصوات بطرق غير مألوفة. هذه الأصوات، التي قد تبدو غير ضارة لمعظم الناس، تُحفز جزءاً من دماغها يسمى اللوزة، المسؤول عن استجابة الخوف والقلق. كل مرة تسمع فيها ندى صوتاً يثير حساسيتها، يرسل دماغها إشارات توتر مفرطة إلى جسدها، ما يجعلها تشعر بهذا الغضب الذي لم تستطع تفسيره.

بدأت ندى تراجع حياتها، وتفكر في كم مرة أثرت هذه المشكلة على علاقاتها. تذكرت كيف تجنبت الغداء مع زميلاتها في العمل، وكيف أنها ابتعدت عن العشاء العائلي في المنزل.

في إحدى المرات، نشب خلاف بينها وبين شقيقها لأنه كان ينقر بالقلم على الطاولة، ولم تستطع منع نفسها من الصراخ عليه. كانت تشعر بالذنب والعزلة، لكنها لم تكن تعرف ما الذي كان يحدث معها.

المثير في الأمر أن ندى لم تكن وحدها. هناك العديد من الأشخاص الذين يعانون من الحالة نفسها، لكنهم لا يعرفون ما يمرون به. الميسوفونيا لا تتعلق بالسمع فقط؛ بل إنها حالة نفسية وعصبية معقدة. الأشخاص الذين يعانون منها يجدون أنفسهم في صراع دائم بين الرغبة في الحياة الطبيعية وبين التهرب من المواقف اليومية التي تُشعرهم بالضيق. بعضهم قد يصل إلى العزلة التامة أو تجنب الأشخاص المقربين منهم، وهو ما يزيد من تعقيد حالتهم النفسية.

ما سبق يفسر أن الميسوفونيا هي حالة يعاني فيها الأفراد من ردود فعل سلبية قوية تجاه أصوات معينة، مثل مضغ الطعام، أو نقرة قلم، أو حتى تنفس الأشخاص بصوت مرتفع. هذه الأصوات، التي تبدو للآخرين غير ملحوظة أو طبيعية، قد تسبب لدى المصابين مشاعر الغضب، القلق، أو حتى الرعب. غالباً ما يبدأ الأفراد في تجنب المواقف التي يتعرضون فيها لتلك الأصوات، ما يؤدي في النهاية إلى تأثيرات سلبية على حياتهم الاجتماعية والمهنية.

كيف تحدث هذه المتلازمة عن طريق معالجة الدماغ للأصوات. في الحالة الطبيعية، يستقبل الدماغ الأصوات ويقوم بترشيحها بناءً على الأهمية. ولكن لدى المصابين بالميسوفونيا، يحدث نوع من «الانحراف» في معالجة الأصوات. يُعتقد أن مناطق معينة في الدماغ، مثل اللوزة والقشرة السمعية، تصبح مفرطة النشاط عندما يسمع الشخص تلك الأصوات المحفزة. هذه الاستجابة المبالغ فيها تؤدي إلى إطلاق كميات كبيرة من هرمونات التوتر، ما يخلق دائرة من الاستجابة العاطفية العنيفة تجاه تلك الأصوات.

ومن الناحية النفسية، قد تتفاقم هذه الحالة لتؤدي إلى اضطرابات القلق أو حتى الاكتئاب، نظراً للضغوط التي تتولد من عدم القدرة على التعامل مع الأصوات المحيطة. الشخص المصاب قد يشعر بالعجز أو العزلة، حيث يجد نفسه يتجنب التفاعل مع الآخرين خوفاً من سماع تلك الأصوات المزعجة.

وبمرور الوقت، يمكن أن تؤدي هذه العزلة إلى مشكلات في العلاقات الشخصية. فعندما يكون الفرد حساساً لأصوات يومية قد تصدر عن شريك الحياة أو أفراد الأسرة، قد يشعر الطرف الآخر بالذنب أو الحيرة حول كيفية التصرف، ما يخلق فجوات في التواصل ويؤثر على نوعية العلاقة.

كيف يمكننا علاجه

العلاج النفسي يلعب دوراً محورياً في معالجة هذه الحالة. العلاج المعرفي السلوكي (CBT) هو أحد الأساليب الفعالة التي تُستخدم لتغيير استجابة الشخص تجاه الأصوات المحفزة. يساعد هذا العلاج على إعادة صياغة الأفكار المتعلقة بالصوت، وتقليل الاستجابة العاطفية السلبية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق أدوات مفيدة في تهدئة استجابة الجسم التلقائية للتوتر. وفي بعض الحالات، قد يتم استخدام العلاج الصوتي، حيث يتعلم المريض كيفية التعود على الأصوات المزعجة تدريجياً لتقليل حساسيتها مع مرور الوقت مع العلاج المناسب، وعندما نعود لتفسير حالة ندى. علاجها كان بأن تتعلم كيف تتعامل مع حساسيتها. عن طريق cpt لم يكن الأمر سهلاً، ولكنه كان تحسناً ملحوظاً. استطاعت ندى أخيراً الجلوس إلى مائدة العشاء دون أن تشعر بالغضب الشديد. وفي أحد الأيام، لاحظت أنها استمعت لصوت مضغ الطعام دون أن تتوتر كما كانت تفعل سابقاً. شعرت بالفخر لأنها استطاعت تجاوز جزء من تلك المعاناة.

ونستنتج من كل ذلك أن الميسوفونيا ليست مجرد حالة تتعلق بالسمع، بل هي حالة معقدة تجمع بين الجوانب النفسية والعصبية. الأفراد المصابون بهذه المتلازمة يعيشون في عالم يُعتبر بالنسبة لهم مكاناً مليئاً بالتحديات والضغوط، ويحتاجون إلى الدعم النفسي والعلاجي لفهم حالتهم والتعايش معها. لذلك، من المهم زيادة الوعي حول هذه المتلازمة، والعمل على توفير برامج علاجية تُساعد المصابين على تحسين جودة حياتهم.

تحياتي.