مع وضْع إسرائيل قَدَماً في المنطقة الحدودية مع لبنان وتَقَدُّم عمليات ضرْبها بلا هوادة للبنى التحية ومنظومة القيادة والسيطرة لـ «حزب الله» المنكفئ إلى صفوف دفاعٍ وصمودٍ بات تتوقّف عليها كلُّ وضعية «محور الممانعة»، بدأتْ تلوح من قلْب دخان المواجهاتِ التلاحمية بين الحزب وتل أبيب وحُطام غاراتِ «التدمير الشامل» في الجنوب والبقاع وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، «الأحرفُ الأولى» من «اليوم التالي» للحربِ بنسخةٍ تتقاطع عليها الولايات المتحدة وإسرائيل بشبه لغة واحدة.
فعلى وقع استمرار اشتباكاتٍ داخل الأراضي اللبنانية المتاخمة للحدود (بين نصف كيلومتر وكيلومتر) وبث تل أبيب فيديو لِما ذكرت أنه جرف جيشها لـ «حديقة إيران» في بلدة مارون الراس، وإمعانها في استهدافاتٍ باتت تطاول مراكز أو نقاط إيواء وتؤدي إلى سقوط ضحايا بينهم، في مقابل تكثيف «حزب الله» ضرباته الصاروخية (صارت بمعدّل 200 يومياً) نحو شمال إسرائيل وصولاً إلى حيفا وضواحيها متسبّباً بدمار ووقوع إصابات بين السكان، لم يَعُد خافياً أن الميدان تحوّل مسرح عمليات للدفع نحو ترتيباتٍ لِما بعد «حرب لبنان الثالثة» ناظِمُها العسكري - الأمني القرار 1701 ولكن مع ملحقات سياسية مُلازِمة ومُلْزمة وربْطٍ بحكم الوقائع وموجباتها بالقرار 1559 (نزع سلاح «حزب الله»).
ولم يكن عابراً في هذا الإطار، أن يرتسم بوضوح تَكامُل في الموقف بين واشنطن وتل أبيب حيال مرتكزات إنهاء الحرب بوصفْها «فرصة» لإنهاء هيمنة أو «قبضة» حزب الله على لبنان والدولة، وهو ما يطلّ على ملامح معاودة تشكيل المنطقة على موازين جديدة مفتاحها بالحدّ الأدنى «عودة إيران إلى داخل إيران».
وفي هذا الإطار، هَبَط على لبنان الكلام الخطير الذي أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عشية اتصال «ترسيم حدود» ردّ تل أبيب على الهجوم الصاروخي الإيراني، في فيديو الثلاث دقائق ونيف وتوجّه فيه إلى الشعب اللبناني واضعاً إياه بين «الغَزْوَنة» أو الحرب الأهلية، وفق معادلة «تحرير لبنان من حزب الله أو غزة ثانية تنتظركم» و«الحرب والدمار أو السلام»، وداعياً ضمناً القوى السياسية والسلطة إلى أخذ المبادرة وتحيُّن «فرصة لم تُتح منذ عقود» لـ «إنقاذ لبنان قبل أن يقع في هاوية حرب طويلة الأمد ستؤدي إلى دمار ومعاناة أشبه بما نشهده في غزة».
وتم التعاطي مع موقف نتنياهو الذي قال «يا شعب لبنان، حرِّروا بلدكم من حزب الله كي تنتهي هذه الحرب وكي لا تعرف الأجيال القادمة من الإسرائيليين واللبنانيين إراقة الدماء بل يعيشون معاً بسلام» وتذكيره بأن «إسرائيل غادرت لبنان قبل 25 عاماً. لكن الدولة التي احتلته فعلياً لم تكن إسرائيل، بل إيران التي تمول وتسلّح حزب الله الذي حوّل بلدكم مستودعاً للأسلحة وقاعدة عسكرية أمامية لإيران»، على أنه قَطَعَ الشك باليقين حيال أن مضيّ تل أبيب في الحرب يرتبط بالقرار 1701 وتطبيقه فقط كما بإزاء أن وقف النار مازال ممكناً مع «ترْك التفاصيل» لِما بعده كما أعلن نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم الذي بات منذ اغتيال السيد حسن نصرالله، بمثابة الناطق باسم الحزب.
طيّ صفحة «التحكم والسيطرة»
وفي قراءة أوساط مطلعة أن نتنياهو حدّد بوضوح أهداف ما فوق عسكرية وميدانية وتلاقيه فيها واشنطن وتحديداً لجهة طيّ صفحة «التحكم والسيطرة» من «حزب الله» على قرارات الدولة وبنيتها وتمكينه في مختلف مفاصلها السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية.
ولاحظت هذه الأوساط أن «حزب الله» وبإعلانه بلسان قاسم الموافقة على وقف نار، من دون ربط ذلك علناً بإنهاء حرب غزة، يعبّر في الدبلوماسية هذه المرة بعد الميدان عن أنه متأخّرٌ خطواتٍ عن اللحاق بما تُخْفيه أو تضمره تل أبيب عسكرياً وسياسياً، وأنه غير قادر على القيام بـ reset لمقاربته للتطورات الدراماتيكية المتسارعة، بدليل أنه لم يُحسن تفكيك معاني المؤشرات والمناخ الذي لاح من واشنطن قبل أيام عن أن مقترح وقف النار الدولي - العربي (طُرح قبل نحو أسبوعين) لم يعُد على الطاولة وان الإدارة الأميركية ليس على أجندتها حالياً إحياؤه.
موقف دفاعي!
وفي ما بدا «لمزيد من التأكيد» اعتبر الناطق باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، أن دعوة «حزب الله» لوقف النار «تظهر أنه أصبح في موقف دفاعي ويتعرّض لضربات قاسية، وأعتقد أن هذا ليس مفاجئاً نظراً للوضع الذي يجد نفسه فيه».
وإذ لفت إلى «أننا مازلنا نريد في نهاية المطاف حلاً دبلوماسياً لهذا الصراع»، أشار إلى «أننا ندعم جهود إسرائيل والتوغل لتقليص قدرات حزب الله وبناه التحتية كي نصل إلى حل دبلوماسي يتيح التطبيق الكامل للقرار 1701»، موضحاً «ان الحزب ومنذ 2006 رفض تنفيذ القرار وبموجبه كان عليه أن يرمي سلاحه وينسحب إلى ما وراء الليطاني».
وأضاف ميلر: «نريد أن يَخرج من هذا الوضع لبنان قادر على كسر قبضة حزب الله والخناق الذي يفرضه على البلد وإبعاد تأثيره والفيتو الذي يضعه على الرئاسة ونزع قدرته على منع الدولة من أن تكون القوة الوحيدة صاحبة السلطة في جنوب لبنان».
وتابع: «لطالما أردنا أن يكون شعب لبنان قادراً على اختيار رئيسه وحكومته من دون فيتو يضعه تنظيم إرهابي، ونأمل أن تَخرج من هذا الصراع فرصة للبنانيين كي يكون لهم بكل أطيافهم صوتهم حيال ما يريدون لبلدهم وألا يؤخذوا رهينة منظمة إرهابية».
وفي حين اعتبر «أن قدرات حزب الله تراجعت والقيادة والسيطرة لديه كذلك ونريد أن يَخرج من ذلك تطبيق الـ 1701»، قال: «هناك عالم جديد تنظرون إليه اليوم عما كان عليه قبل أسابيع قليلة (...) وحزب الله في وضع تراجُع بدليل دعوته لوقف النار للمرة الأولى من دون ربط ذلك بغزة».
الـ 1701 وحتى الـ 1559
وفي موازاة خريطة الطريق السياسية التي تتبلور تباعاً، فإن في لبنان أرضية سياسية سابقة للحرب ترفع عنوان تنفيذ الـ1701 وحتى الـ 1559 وضبْط الحدود مع سورية وتعزز الرقابة على المعابر البرية وعبر المرافق البحرية والجوية واحتكار الدولة للسلاح وقرار الحرب والسلم والنأي بلبنان عن المحور الإيراني، ولكن ملاقاة مرحلة «حزب الله» ما بعد نصرالله يتم صوغ أُطُرها وفق الأوساط نفسها بدرايةٍ حرصاً على عدم الانزلاق إلى احتراب أهلي يضع البلاد بين ناريْ حرب إسرائيلية واقتتالٍ داخلي، رغم الاقتناع بأن على السلطة مسؤولية في تظهير موقف واضح من رفضها المضي في الحرب والعودة إلى الوضع كما كان في 7 أكتوبر 2023 و«كأن شيئاً لم يكن»، وسط خشية من أن يضع نتنياهو البلد برمّته ومع بناه التحتية في فوهة المدفع.
وإذ كان مسؤول في الحكومة اللبنانية قال لـ «رويترز» إن عدول «حزب الله»، عن موقفه باشتراط تطبيق هدنة في غزة للتوصل إلى وقف النار في لبنان جاء «بسبب مجموعة من الضغوط، بما في ذلك النزوح الجماعي لبيئته و تكثيف إسرائيل حملتها البرية واعتراض بعض الأطراف السياسية اللبنانية على موقفه»، اشتدَّ «عضُّ الأصابع» في الميدان الذي انطبع على المقلبين بـ:
- تكثيف إسرائيل غاراتها التدميرية جنوباً وبقاعاً كما في الضاحية الجنوبية لبيروت مع مضيّها في التوغل البري ومحاولات التقدم في القطاعات: الغربي والشرقي والأوسط من جنوب لبنان وسط استمرار عدّاد الضحايا بتسجيل المزيد من الأرقام المفجعة.
- بدء استهداف الطيران نقاط إيواء للنازحين، كما حصل في بلدة الوردانية (الشوف) حيث طاولت غارة شقة سكنية في فندق دار السلام ما أدى في حصيلة أولية لسقوط 4 شهداء و10 جرحى، ثم في منطقة صور حيث تم استهداف مدرسة ببلدة السماعية ما تسبب بوقوع إصابات.
- تعميق«حزب الله»عمليات إغراق منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي برشقات الـ 100 صاروخ دفعة واحدة كما فعل أمس في اتجاه صفد وكانت الأكبر تُوجها إليها ما تسبّب بأضرار كبيرة، وذلك بعدما قصف عشرات مستوطنات الشمال، ولا سيما كريات شمونة حيث قُتل مستوطنان، وصولاً إلى حيفا التي كان هدد باستهدافٍ أكبر لها ولمدن أخرى إذا واصلت إسرائيل حملتها المكثفة لقصف لبنان والمستمرّة منذ أكثر من أسبوعين.
علماً أن موقع «واللا» الإسرائيلي أشار إلى أن الاعتراضات الجوية في الشمال «منعت محاولة لاستهداف منصة استخراج الغاز في حقل ليفياثان»، فيما ذكرت القناة الـ 12 أن كبير مستشاري وزير المال بتسلئيل سموتريتش أصيب خلال الاشتباكات عند الحدود مع لبنان.
- إعلان الحزب في سلسلة بيانات استهداف قوات إسرائيلية أثناء تقدمها في اتجاه بلدات لبنانية ما عَكَس أن هذه القوات باتت داخل الأراضي اللبنانية وإن ضمن نطاق جغرافي لا يبعد كثيراً عن الحدود.
ميقاتي
وفي هذا الوقت، جدد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تأكيد «ان المساعي العربية والدولية لا تزال مستمرة لوقف العدوان الاسرائيلي على لبنان، لكن التعنّت الاسرائيلي والسعي لتحقيق ما يعتبره العدو مكاسب وانتصارات لا يزال يعيق نجاح هذه المساعي».
وقال: «قد يعتقد البعض ان الجهود الدبلوماسية توقفت، وأن هناك ما يشبه الموافقة الضمنية على مضي اسرائيل في عدوانها، لكن هذا الانطباع غير صحيح، فنحن مستمرون في إجراء الاتصالات اللازمة، وأصدقاء لبنان من الدول العربية والأجنبية يواصلون ايضا الضغط لوقف النار لفترة محددة للبحث في الخطوات السياسية الأساسية وأهمها التطبيق الكامل للقرار 1701، وإجبار العدو الاسرائيلي على تنفيذه».