قبل الحرب، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن هدفه هو «إعادة تشكيل الشرق الأوسط». ولكن بعد ثلاث محاولات فاشلة من جانب القوات الإسرائيلية للتوغل في لبنان ـ والتي أسفرت (في اليوم الأول) عن مقتل ثمانية جنود وإصابة العشرات وتدمير ثلاث دبابات «ميركافا» إثر التقدم لمسافة 400 متر فقط داخل الأراضي اللبنانية ـ ومحاولات أخرى لاختبار استعداد «حزب الله» على طول الحدود ستتوالى يومياً، اضطر نتنياهو إعادة تقييم أهدافه، فحوّل تركيزه من إستراتيجية إقليمية أوسع نطاقاً إلى أهداف أكثر محدودية: إطلاق سراح السجناء الإسرائيليين المحتجَزين في غزة وعودة سكان شمال إسرائيل إلى ديارهم.

ومع ذلك، تسلّط هذه الأهداف الجديدة الضوءَ على التحديات الكبيرة التي تواجه إسرائيل. فالهدف المتمثل في تأمين إطلاق السجناء يتعلّق بغزة، وليس لبنان، في حين يظلّ تحقيق عودة سكان شمال إسرائيل صعباً بالقدر نفسه.

وحتى لو انسحب «حزب الله» من مناطق معينة في جنوب لبنان، فإن ترسانته الصاروخية ستظل قادرةً على الوصول إلى كل جزء من إسرائيل، الأمر الذي يجعل العودة الآمنة لسكان الشمال مستحيلة من دون حل شامل ودائم. وبالتالي، من المتوقع أن يصل الخيار العسكري إلى طريق مسدود.

وفي الوقت الحالي، من المرجح أن يواصل نتنياهو محاولات التوغل العسكرية في جنوب لبنان، وقد تحتلّ قواته بعض التلال أو المواقع الإستراتيجية. ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات لن تحقق هدف إعادة سكان شمال إسرائيل إلى منازلهم. فقدرة الحزب على إطلاق الصواريخ من عمق الأراضي اللبنانية تضمن بقاء كل إسرائيل في نطاقه، بغض النظر عن السيطرة الإسرائيلية على نقاط جغرافية محددة. ويسلط هذا الواقع الضوءَ على القيود المتأصلة في النهج العسكري المحض لحل الصراع.

وفي تحوّل دبلوماسي وإستراتيجي مهم، أبلغ رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن «حزب الله» وافق على قبول قرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي كان صدر العام 2006 لـ «إنهاء الأعمال العدائية» بين إسرائيل والحزب.

وجاء هذا الموقف في وقت حاسم، حيث تستعد إسرائيل لشن غزو بري للجنوب.

ويشير قبول الحزب للـ 1701 إلى قراره المدروس بفصل مصير لبنان عن الصراع في غزة مع إبقاء نفسه في وضعٍ يسمح له بالانتقام من العدوان الإسرائيلي إذا دعتْ الحاجة. وتم إبلاغ المسؤولين الأميركيين والفرنسيين بقبول «حزب الله».

ومع ذلك، بعد وقت قصير من الاستجابة الإيجابية الأولية من جانب إسرائيل، أطلق جيشها توغلاً في الجنوب.

ويشكّل هذا القبول التكتيكي للقرار مناورة إستراتيجية واستخباراتية متعددة الوجه من «حزب الله». فمن خلال الانحياز إلى قرار معترَف به دولياً، يكتسب الحزب الشرعية الأخلاقية والقانونية للرد عسكرياً إذا غزت إسرائيل لبنان.

وفي ضوء عدم امتثال إسرائيل منذ فترة طويلة لأجزاء مختلفة من القرار، فإذا انتهكت شروطه يمكن للحزب تبرير أعماله العسكرية، ما يعزز دوره كمُدافِع شرعي عن لبنان ضد العدوان الإسرائيلي.

ويوفّر قبول «حزب الله» بالقرار 1701 في هذه المرحلة الحرجة العديد من المزايا الإستراتيجية. أولاً، يسمح للحزب بإبعاد لبنان عن الصراع في غزة، ويجنّب توريط البلد بأكمله في الإجراءات الانتقامية الإسرائيلية على غرار ما يحصل ضدّ الأراضي الفلسطينية.

ويساعد هذا الانفصال الحزب على الحفاظ على سيادة لبنان واستقلاله في صنع القرار بينما يضع نفسه كمدافع أساسي عن لبنان ضد الغزو.

ومعلوم أن الـ 1701 الذي صدر في أعقاب حرب يوليو 2006 يدعو إلى وقف الأعمال العدائية والانسحاب الإسرائيلي الفوري من جنوب لبنان، واحترام السيادة اللبنانية.

ومع ذلك، اتُهمت إسرائيل منذ فترة طويلة بعدم الالتزام الكامل بمندرجاته، خصوصاً من خلال انتهاكاتها المستمرة للمجال الجوي اللبناني والتوغلات الدورية عبر الحدود.

كما تحتفظ إسرائيل بوجود في مناطق متنازَع عليها مثل مزارع شبعا التي يطالب بها لبنان لكن تل أبيب تعتبرها جزءاً من مرتفعات الجولان المحتل.

ومعاودة تأكيد «حزب الله» التزامه بالـ 1701 يفرض ضغوطاً على تل أبيب للامتثال له، فإذا رفضت القرار أو واصلت توغلها جنوباً، سيُنظر إليها باعتبارها المعتدي، ما يضفي شرعية أكبر على حق الحزب في الرد عسكرياً في الإطار الدولي.

وفي حين أن النهج العسكري لن يحل الصراع، يبقى الحلُّ الديبلوماسي المتجذر في الاتفاقات الدولية، ولاسيما القرار 1701 وحده القادر على توفير مسار مستدام للمضي قدماً.

لكن رفْض إسرائيل المتكرر للامتثال الكامل للقرار ـ ولا سيما رفضها الانسحاب من الأراضي اللبنانية واحترام السيادة ـ يثير الشكوك حول احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية طويلة الأجَل.

وفي الخلاصة يسلط قبول الحزب بالقرار الضوء على اعترافه بأن النصر العسكري وحده لا يمكن أن يضمن مستقبل لبنان.

ومن خلال تبني القرار، يعزز الحزب مكانته قانونياً ودبلوماسياً، ويضع نفسه في موقع المدافع الشرعي عن لبنان ضد العدوان الإسرائيلي.

ويظل الحلُّ الدبلوماسي السبيلَ الوحيد القابل للتطبيق لإنهاء الصراع. لكن إلى أن تمتثل إسرائيل بالكامل للـ 1701، بما في ذلك التزاماتها بالانسحاب من الأراضي اللبنانية واحترام سيادة لبنان، من المرجح أن تستمر دورة العنف.

وفي غياب الالتزام الصادق بالدبلوماسية، لن يتسنى تحقيق الأهداف العسكرية ولا السلام الدائم.

وفي حين يستعد الجانبان للمرحلة التالية من الصراع، سيظلّ الـ 1701 بمثابة نقطة مرجعية حاسمة وناظماً لا بدّ منه لمعالجة هذا الوضع المتطور.