لم يكن توقيتُ الضربة الإيرانية الصاروخية لإسرائيل مجرّد انتقامٍ لضيْفها إسماعيل هنية الذي اغتالتْه تل أبيب في طهران. ولم تكن فقط انتقاماً للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، حليفها الأقوى في الشرق الأوسط، ولا مجرد ردّ على قتْل مدير غرفة عمليات الحرس الثوري وقائد «فيلق القدس» في لبنان اللواء عباس نيلفوروشان، الذي تسلّم إدارة عمليات «طوفان الأقصى» في «بلاد الأرز» دعْماً للقدس، وكان في غرفة العمليات مع قائد «حزب الله» حين ضربت الغارة الإسرائيلية يوم الجمعة.

فهذه الضربة هي دعوة لحرب مفتوحة ومصيرية تَعلم إيران أن عدم توسع الحرب لتشملها أيضاً في هذه المرحلة المقبلة، يعني أن الحرب ستدق أبوابها عند عزلها بعد تدمير كل حلفائها.

لقد انقلب السحر على الساحر: فبعد أن سعت بكل ما لديها من قوة، لحرب شرق أوسطية كاملة، وحاول «حزب الله» وإيران تجنبها، أصبحت تضر بإسرائيل في عز انتصارها، وتخدم حلف المقاومة بكل أطرافه قبل الانتخابات الاميركية وتعاظم قوة إسرائيل إذا ما أضعفت «حزب الله».

استخدمت إيران مئات الصواريخ البالستية المتطورة الفرط صوتية والتي تعمل على الوقود الصلب لتضرب إسرائيل ليل الثلاثاء.

واحتاجت هذه الصواريخ إلى أقل من 9 دقائق لتصل إلى أهدافها العسكرية، ولتبتعد عن أهداف مدنية أو بنى تحتية، تماماً كما فعل ويستمر«حزب الله» في حربه على إسرائيل كجبهة إسناد لفلسطين منذ الثامن من أكتوبر.

ومازال يتبع المعايير نفسها - وكذلك فعلت إيران بضربها لأهداف عسكرية فقط - حتى ولو أثبتت إسرائيل أنها تمتلك الجيش الأكثر لا أخلاقية في العالم الذي لا يكترث - ومعه القيادة السياسية - لقتل المدنيين، كما برهنت في قطاع غزة ولبنان.

لكن توقيت الضربة ذات أهمية عالية جداً. إذ تقع في خضم بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان ونشوة الانتصارات التي يتباهى بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد سلسلة من العمليات الاستخباراتية والأمنية والعسكرية.

فقد قصف اليمن مرتين وضرب هدفاً إستراتيجياً فيه، وكذلك فعل في طهران باغتيال هنية، ليتحدى إيران في عقر دارها. واتجه نحو لبنان ليحضر اجتياحاً برياً بعد أن أوجد حالة من الفوضى داخل صفوف «حزب الله» بتفجير أجهزة النداء والتي تلتها أجهزة جهاز تفجير البث الراديوي، ومن بعدها مقتل قادة في الصف الأول والثاني، ليتوج عملياته باغتيال الأمين العام وقائد في الحرس الثوري في غرفة واحدة ومعهما قائد جهادي في الصف الأول، هو علي كركي، وآخرون في غرفة العمليات من المخططين ولو بدرجة أقل من المسؤولية.

وقد تسبب ذلك، بتوغل الاجتياح، في الخط الأول (بضعة مئات من الأمتار) على الحدود اللبنانية في وقت يحتاج فيه «حزب الله» لقرار سياسي قيادي ليشتبك مع إسرائيل خارج حدود المشاغلة اليومية التي تقوم بها الوحدات الأمامية على خط المواجهة لضرب صواريخ في العمق الإسرائيلي.

وهذا ما حصل بعد أن استعاد الحزب تنظيم قيادته وقراره من خلال مجلس شورى يتخذ القرار برفع مستوى التراشق لتضرب مئات الصواريخ الدقيقة حيفا وتل أبيب في يوم واحد.

وهذا يدل على استعادة القيادة قيادتها وزمام السيطرة والبدء بخطة المواجهة الشاملة الطويلة بين الوحدات الصاروخية والقوات الخاصة التي اشتبكت مع العدو داخل الأراضي اللبنانية في منطقة العديسة، كأول مواجهة لها في هذه الحرب منذ سنة تقريباً.

إلا أن إيران، التي تراقب أيضاً سلوك إسرائيل من خلال تواجدها في الصفوف الأولى من الحرب منذ بدايتها وفي جبهات متعددة، أدركت أن نتنياهو يقدم نفسه كملك الشرق الأوسط المستقبلي، والذي سيقوم بالمهمة التي لم يقم بها أحد من قبله: قطع ايدي وأطراف إيران في المنطقة لتصبح لقمة سهلة أمام أميركا، ولإعادة شيطنتها من دون أن يخشى أحد قدراتها العسكرية، لتصبح هدفاً سهلاً في المستقبل بعد القضاء على الحزب.

سورية والعراق واليمن

وبعد ذلك، الانتقال لتدمير سورية من أجل إنشاء «إسرائيل الكبرى»، وهذا من شأنه أن يمهد لاستهداف العراق من خلال تجويعه وضرب اقتصاده (تدمير قيمة العملة المحلية مقابل الدولار كما حصل في لبنان) لينقلب على مقاومته ما دامت ساحته هشة وغير محصنة بما فيه الكفاية وتتجاذبه أطراف نفوذية متعددة، داخلية وخارجية.

بالتزامن مع ذلك، يعزل الحوثيون أكثر في اليمن، للاستدارة بعدها نحو إيران داخلياً وعسكرياً بتوجيه ضربات عدة الأطراف والأذرع ولخلق فوضى عارمة قبل القضاء عليها.

لا يمكن إفشال هذا السيناريو الإسرائيلي - الأميركي، لإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط وتربع إسرائيل على العرش، إلا بصمود «حزب الله» ومد الدعم له وبدخول إيران الحرب أو استفزاز إسرائيل وجرها لتحرف انتباهها نحو أهداف عدة في آن واحد.

وقد قدمت إيران بقيادة السيد علي خامنئي، وهو أيضا قائد القوات المسلحة المطلق بحسب الدستور بمادته 110، والمقرر للحرب والسلم، خطة العمل المقبلة بالإعلان عن الانتقام من اغتيال قائد الحرس الثوري في لبنان لترسخ معادلة جديدة بضرب إسرائيل إذا ما اغتيل قادة إيرانيون آخرون أينما كانوا، كذريعة لضرب إسرائيل ودخول الحرب الشرق أوسطية لأسباب واضحة.

وهذه هي المعادلة الاستفزازية التي تستطيع إيران الدخول منها لتعيد قصف إسرائيل وتدخل المعركة التي لم تعد تخشاها الآن لكي لا تفرض عليها لاحقاً بعد عزلها، خصوصاً أن الحرب الشاملة أصبحت تصب في مصلحة إيران وحلفائها وليس إسرائيل وأميركا.

نعم، كان مخطط نتنياهو بالذهاب نحو الحرب الشاملة يوم كان يتعرض لانتقادات مشددة تهدد حكمه داخلياً وفشله بتحرير الرهائن الإسرائيليين وتدمير حركة «حماس». أما بعد عملياته المتكررة ضد «حزب الله» وبدء اجتياح لبنان وحصاده للدعم الداخلي غير المسبوق منذ فترة طويلة، لم يعد يرغب بفتح جبهات الحرب المتعددة التي أصبحت تصب في مصلحة إيران وحلفائها.

إنها الحرب التي بدأت لتوها لتتجه نحو ما نادى به قائد «كتائب القسام» محمد الضيف يوم السابع من أكتوبر، يوم دعا كل الجبهات لتفتح ضد إسرائيل. ولكن الأمور حينها لم تكن ناضجة مثلما هي حالتها اليوم والتي كانت تصب في مصلحة إسرائيل.

أما بعد سنة تقريباً، فإن الحرب تدق على أبواب الشرق الأوسط إذا لم يضع حداً لها نتنياهو، الذي لايزال يمتلك المبادرة بالحرب والسلم، والذي لم يعد يستطيع إيقاف الحرب اليوم بعد ضربة إيران لكي لا يظهر داخلياً وكأنه يخشاها وأن طهران لقنته درساً. لذلك فإن تطورات متسارعة، ستضرب أبواب الشرق الأوسط لتفرض إيقاف الحرب فقط بعد تمدد أصبح قريباً، وناراً سيطال لهيبها دولا متعددة.

كل ذلك يعتمد على أداء المقاومة في جنوب لبنان، لتوقف إسرائيل على حدود جنوب نهر الليطاني، أو تفتح له الطريق إلى زعامة الشرق الأوسط.