في اليوم الثالث على «حرب لبنان الثالثة»، ارتسم سِباقٌ محمومٌ بين الجهود الدبلوماسية الحثيثة، الدولية والعربية، لتوفيرِ أرضيةٍ سياسية تُجَنِّبُ «بلاد الأرز» حرباً شاملة يمكن أن تَقْضي على ما تبقّى من إمكانات نهوضٍ من بين ركام المواجهات وحُطام الواقع المالي وتمنع في الوقت نفسه تَحَوُّل الصراع إلى إقليميّ، وبين انفلاشِ المعارك على المقلبيْن، وصولاً إلى تل أبيب التي وجّه «حزب الله» بالصاروخ البالستي «قادر 1» أوّل رسالة من نوعها بأنه قادر على إصابتها وعموم إسرائيل، ومروراً بكل الجغرافيا اللبنانية تقريباً التي جعلتْها الطائرات الإسرائيلية في مرمى اجتياح جوي سجّل في يومه الأول (الاثنين) رقماً قياسياً لِما وصفه خبراء عسكريون بأنه «أكثر الغارات كثافة في الحروب المعاصرة».
«مساع جدية»
وفي حين كان مجلس الأمن يعقد جلسةً طارئةً حول لبنان بطلبٍ من فرنسا، بعد اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم الأميركي أنتوني بلينكن في نيويورك، هو الذي أكد «أننا نعمل بلا كللٍ لتجنُّب حرب شاملة في لبنان وعلى التحول إلى عملية دبلوماسية»، محذّراً من «أن خطر التصعيد في الشرق الأوسط شديد»، لم يكن عابراً أن يعلن رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري أنه يقوم بـ «مساعٍ جدية» مع أطراف دولية بينها الولايات المتحدة للجم التصعيد الإسرائيلي، «والساعات الـ24 المقبلة ستكون حاسمة في نجاح هذه المساعي أو فشلها».
واكتسب موقفُ بري، وهو شريك «حزب الله» في الثنائية الشيعية والذي كان تولى ابان «حرب يوليو 2006» إدارة المعركة الديبلوماسية التي أفضت إلى وقف العدوان على متن القرار 1701، أهميته لأنه عَكَسَ تفعيلاً مبكّراً للمسارِ الدبلوماسي في مؤشرٍ إلى أن الحزبَ لا يريد التوغّل نحو «حرب بقاء» وأن كل التصعيد العسكري المرشّح أن يتصاعد في الأيام المقبلة باتت له «بوابة خلفية» فُتحت لحلّ دبلوماسي موصول بـ «عض الأصابع» المرتقب أن يشتدّ في الميدان ويُراد أن يشكلّ سلّماً في نهاية المطاف لبلوغ تسوية «اليوم التالي» التي بات من المحسوم أنها ستكون في لبنان وغزة معاً.
وهذا الترابط قُرئ بين سطور كلام بري الذي قال رداً على سؤال (لصحيفة الشرق الأوسط) عن إمكان قبول «حزب الله» بمبدأ الفصل بين جبهة لبنان وغزة «هذا المسعى يراعي عدم الفصل بين الملفين، ويرتكز على ما تم التوصل إليه سابقاً مع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين قبل الحرب في غزة وبعدها وأعتقد أن هذا الحل الوحيد المتاح والقابل للتطبيق».
وإذ بدا الإصرارُ على ربْط الجبهتين ظاهرياً على أنه يَعكس أن ما يطرحه بري يحمل في ذاته «بذور تفجيرٍ من الداخل» في ضوء إصرار إسرائيل على هذا الفصل، فإن «الوجهَ الآخَر» غير المعلَن لهذا الموقف اعتُبر بمثابة مؤشر إلى عملٍ يَجْري على وحدة المساريْن في الحلّ، انطلاقاً من مقترح الرئيس جو بايدن حول القطاع وعبر حضّ بنيامين نتنياهو على تخفيف شروطه مستفيداً من أن جبهة لبنان الأخطر «سترسو على تسوية» ومن تسريبات حول استعداد «حماس» لخفْض شروطها حول الهدنة لإسناد «حزب الله»، ومما سبق أن جرى بحثه وصولاً إلى بلوغ شبه اتفاق إطار حوله مع هوكشتاين حيال الترسيم البري بين لبنان وإسرائيل وبما يشكّل تلقائياً مدخلاً لتطبيق القرار 1701 ومن ضمنه الترتيبات الأمنية في جنوب الليطاني وابتعاد «حزب الله» عن الحدود.
وإذ كان هوكشتاين ناقش في زيارته لتل أبيب الأسبوع الماضي عشية مجزرتي «البيجر» و«ايكوم» مقترحاً لإنجاز التَفاهُم حول الترسيم البري، وذُكر أنه ضمّنه، إلى جانب بت النقاط الخلافية الـ 13 على طول الخط الأزرق، صيغة تمرّ عبر مزارع شبعا المحتلة، ولكن هذا الطرح لم يُقابل بإيجابية وسط اعتباره من مسؤولين إسرائيليين استفزازاً لأنه «يتضمّن تمرير الحدود عند موقع خيمة كان وضعها حزب الله في مناطق سيطرة إسرائيل (في مزارع شبعا)»، اعتبرتْ أوساط سياسية أن ما أعلنه بري يُلاقي ما كشفه موقع «أكسيوس» عن أن واشنطن تعدّ خطة لوقف نار موقت بين إسرائيل و«حزب الله» وكان يُنتظر أن تعلنها أمس، وناقشتها مع عدد من الدول العربية وفرنسا وإسرائيل.
«حزب الله» منفتح!
وترافق ما كَشَفه «أكسيوس» مع معلومات عن أن مستشارين للرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون ناقشوا مع هوكشتاين الوضع في لبنان، وذلك قبيل لقاء الأول مع نظيره الأميركي جو بايدن على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث شكّل التصعيد عنواناً رئيسياً على طاولة البحث، قبل أن تنقل «رويترز» أن واشنطن تقود مسعى لإنهاء الأعمال القتالية في غزة ولبنان وأن «حزب الله منفتح على أي تسوية في شأن لبنان وغزة»، وان الاتفاق قد يشمل إطلاق الرهائن من غزة، وسط توقُّف الأوساط نفسها أيضاً عند أن بري اتصل برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الموجود في نيويورك «لوضعه في أجواء ما قام به من اتصالات واسعة لوقْف الهجمات الإسرائيلية».
وفي رأي الأوساط نفسها أن هذا مؤشر إلى جدّية الحركة المكوكية التي تَجري في مقر الأمم المتحدة وبدء «مفاوضات أوّلية» تم حضّ لبنان على المشاركة فيها مباشرة (من خلال ميقاتي) من الموفد جان - إيف لودريان خلال زيارته لبيروت التي اختتمها بلقاء مع سفراء «مجموعة الخمس» حول لبنان.
وفي انتظار انقشاع الخيط الأبيض من الأسود في المسار الدبلوماسي الذي يتلمّس أول خطواته الشائكة بدليلِ ما نُقل عن مسؤولين إسرائيليين من «أن أميركا وفرنسا تعملان لاتفاقِ تهدئةٍ في لبنان من دون إحراز تقدم»، وعلى وقع إعلان البيت الأبيض «أن الولايات المتحدة تشعر بقلق شديد إزاء التقارير عن هجوم صاروخي شنّه حزب الله على جهاز الاستخبارات الإسرائيلي» في تل أبيب، معتبراً «أن إسرائيل تواجه تهديداً من جماعة إرهابية مدعومة من إيران، ونواصل تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وينبغي ألا تعيش أي دولة تحت وطأة هذه التهديدات على حدودها مباشرة»، شهدت «حرب لبنان الثالثة» أمس، ما بدا ذروةً في عمق الاستهدافات على المقلبين مع مفارقات بارزة، كان أبرزها:
«قادر 1» في تل أبيب
- وصول صواريخ «حزب الله» إلى تل أبيب للمرة الأولى في تاريخ صراعه مع إسرائيل حيث أعلن أن «المقاومة الإسلامية أطلقت صاروخاً بالستياً من نوع قادر 1 مستهدفة مقر قيادة الموساد في ضواحي تل أبيب، وهو المقر المسؤول عن اغتيال القادة وعن تفجير البيجرز وأجهزة اللاسلكي»، وهو ما أكده الجيش الإسرائيلي الذي أعلن اعتراضَ الصاروخ.
وتَرافق هذا الاختراق الأعمق من الحزب مع إطلاقه مئات الصواريخ على صفد، وشرق حيفا وغربها، ومستعمرات الشمال.
- استنفار سياسي - أمني واجتماعات متواصلة تُوّجت باجتماع الحكومة المصغّرة في وزارة الدفاع في تل أبيب وتأجيل نتنياهو سفره إلى نيويورك إلى اليوم، وسط حبْس أنفاس عزّزه تلويحٌ بتفعيل معادلة تل أبيب مقابل بيروت.
«المناورة البرية»
- إعلان رئيس الأركان الإسرائيلي هيرتسي هاليفي «أن حزب الله وسع عمليات الاستهداف وسيلقى الرد»، وأن الغارات المتواصلة تمهّد «للمناورة البرية»، رغم تأكيداتٍ مسؤولين أميركيين أن ضغطهم يتركّز على منع الدخول البري كما دخول إيران في الحرب.
- تأكيد قائد الجبهة الشمالية أوري غوردين أن الجيش «دخل مرحلة جديدة من الحملة، وعلينا الاستعداد بقوة لعملية برية»، في موازاة إعلان الجيش «تجنيد لواءين احتياطيين للقيام بمهام عملياتية في الشمال».
- انفلاش الغارات التدميرية، التي استعادت هستيريا اليوم الأول من الحرب، في مختلف المناطق اللبنانية، التي لم يبقَ إلا محافظة الشمال في منأى عنها، رغم ارتباطها الجغرافي بالهرمل الذي تحوّل مع البقاع منطقة عمليات واسعة، مثل الجنوب بكامل أقضيته، مروراً أمس باستهدافات هي الأولى في جبل لبنان، لأعالي قضاء كسروان وتكثيف الضربات في قضاء جبيل، وصولاً إلى الشوف والساحل الجنوبي بعد الضاحية الجنوبية لبيروت التي تحوّلت هدفاً شبه يومي لغاراتٍ موْضعية هدفها اغتيال قادة من الحزب.
وفي الإطار، استهدفت إسرائيل بلدة المعيصرة (ذات الغالبية الشيعية) في قضاء كسروان (ذات الغالبية المسيحية) وتحديداً منزل ابن شقيق الشيخ محمد عمرو، مسؤول جبل لبنان والشمال في «حزب الله» ما أدى في حصيلة أولية إلى سقوط ثلاثة أشخاص وإصابة تسعة بجروح بينهم نازحون من الجنوب استقروا في مدرسة مجاورة للمنزل المستهدَف.
وفي جبيل، شن الطيران غارة على بلدة راس اسطا (فيها حضور شيعي) ما تسبب بوقوع جريحين، بعد إلقاء بالونات حرارية فوق كفرسالة - عمشيت.
كما استهدفت غارة بلدة جون (إقليم الخروب - الشوف) وتحديداً منزلاً ذُكر أنه يعود لعنصر من الحزب، ما أدى إلى سقوط ما لا يقلّ 4 ضحايا وتضرر منازل في محيط دير المخلص المجاور لبلدة بسري.
وفي حين استهدف الطيران الحربي محيط منشآت الزهراني (الساحل جنوب صيدا) للمرة الأولى، وهو ما اعتُبر رسالة برسم الخط الأحمر الأميركي أمام استهداف البنى التحتية للدول اللبنانية، فإن موجة التصعيد التدميري أمس، شملت مدينة صور التي ضُربت في شكل عنيف جداً، وكذلك منطقة النبطية، وسائر أقضية الجنوب وصولاً إلى بعلبك والهرمل، مع تسجيل عمليات هدم لأبنية سكنية على مَن فيها، وهو ما يفسّر سقوط عائلاتها بأكملها والحصيلة الدموية المرعبة التي بلغت بين السادسة من صباح أمس وقرابة الرابعة عصراً 51 ضحية و223 جريحاً أضيفوا إلى نحو 560 ضحية وأكثر من 1850 جريحاً.
وكان ليل الثلاثاء - الأربعاء شهد أول استهداف لمنطقة الجية - ساحل الشوف حيث أغارت طائرة على ما قيل إنه مرآب لتصليح السيارات تعود ملكيته لشخص ينتمي إلى «حزب الله»، فيما تحدث تقارير أخرى عن ضرب مستودع للحزب، وسط توقف أوساط متابعة عند الحفرة الكبيرة التي خلفتها الغارة التي سُمع دويها في بيروت ومناطق عدة في جبل لبنان.
ستارمر لا يرى حلاً عسكرياً وواشنطن تنشر جنوداً في قبرص