هذه حرب مستمرّة على غزّة يقودها بنيامين نتنياهو، الذي ربط مصيره السياسي بانتهاء الحرب التي لا يريد لها أن تنتهي. تستمرّ الحرب في وقت ترى تقديرات القادة العسكريين الإسرائيليين أنّ غزّة سقطت عسكرياً وأن الجيوب التي لا تزال تمتلكها «حماس» لا تمثل تهديداً.

بغض النظر عما يصدر عن قادة «حماس» والناطقين باسمها الذين يقولون أن الحرب مستمرّة، يحتاجون اعادة النظر في الواقع والسعي إلى حل سياسي بإشراف دولي وعربي في الوقت ذاته.

بالنسبة إلى المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة، انتهت قضية غزّة ما دامت غزّة تحولت إلى أرض غير قابلة لاستقبال الغزاويين الذين ينوون العودة إلى منازلهم في حال توقفت العمليات العسكريّة؟ هل تنقل «حماس» الحرب إلى الضفّة الغربيّة من دون خريطة طريق سياسيّة تأخذ في الاعتبار أنّ إسرائيل، في وضعها الحالي، لا تمتلك أي سياسة من أي نوع باستثناء التدمير؟

ثمّة أسئلة كثيرة تطرح نفسها في حال توقف حرب غزّة التي يبدو أنّ لا مصلحة لرئيس الحكومة الإسرائيليّة الإعلان عن أنّها حرب انتهت. تكمن مشكلة نتنياهو، قبل أي شيء آخر، في أنّه لا يمتلك مشروعاً سياسياً لليوم التالي للحرب. يشبه اليمين الإسرائيلي «حماس» في أمور كثيرة. شنت «حماس» هجوم «طوفان الأقصى» في السابع أكتوبر الماضي من دون إدراك لما ستفعله في اليوم التالي للهجوم. لم يعد لدى «حماس» في الوقت الراهن سوى ورقة الأسرى التي تضغط بها في الداخل الإسرائيلي على «بيبي». ليس لديها أيضاً سوى طرح شروط موازين القوى على الأرض لا تسمح بتحقيقها.

لا تعرف «حماس» على الأرجح ماذا تريد اليوم، كذلك الأمر بالنسبة إلى «بيبي» الذي يحتمل أن يهرب إلى توسيع العمليات العسكريّة في اتجاه الضفّة الغربيّة وربّما لبنان.

يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي الاعتراف بأن لا مجال لاحتلال الضفّة بشكل نهائي، اللهمّ إلا إذا كان يعتقد أن إسرائيل تمتلك ما يكفي من القوّة البشرية التي تسمح لها بأن تكون في كلّ مكان وبخوض حروب عدة في الوقت ذاته من دون مشروع سياسي واضح المعالم في منطقة تعيش على كفّ عفريت.

في النهاية، لا تستطيع إسرائيل تصفية القضيّة الفلسطينيّة ولا تستطيع مواجهة الخطر الإيراني الذي تذرعت به طويلاً، مثلما تذرّعت بـ«حماس»، من أجل رفض قيام دولة فلسطينيّة. ليس أمام إسرائيل، في غياب الدور القيادي الأميركي سوى متابعة عملية الهروب إلى أمام، وهي لعبة باتت الهواية المفضلة لدى بنيامين نتنياهو.

من الواضح أن كلّ الرهانات التي اعتمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي انقلبت عليه وانقلبت في الوقت ذاته على إسرائيل التي وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه. الدليل على ذلك أن ليس لديها أي خطة لغزة باستثناء العودة إلى احتلالها. حسناً، بما أن إحتلال غزّة خيار قابل للحياة، لماذا انسحبت الدولة العبريّة من القطاع انسحاباً كاملاً في العام 2005 من دون أي تنسيق من أي نوع مع السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، هذه السلطة التي كشفت الأيام أنها لا تمتلك أي قدرة على إدارة المناطق التي تحت سيطرتها؟

كيف انقلبت رهانات نتنياهو على إسرائيل؟ الجواب في «طوفان الأقصى» الذي يتبيّن يومياً أنّه طوفان حقيقي تجاوز المستوطنات التي هاجمتها «حماس» والواقعة في ما يسمّى «غلاف غزّة».

يبقى أهمّ تطور في مرحلة ما بعد حرب غزّة الحروب التي شنتها «الجمهوريّة الإسلاميّة» من أجل خدمة أهداف خاصة بها. هناك حرب لبنان وهناك حرب الحوثيين التي عطلت جزءاً من حركة الملاحة في البحر الأحمر. هناك أيضاً صواريخ الحوثي، وهي صواريخ إيرانيّة تطلق بين حين وآخر في اتجاه إسرائيل. هناك فوق ذلك كلّه استغلال إيراني لحرب غزّة من أجل إحكام القبضة على العراق الذي تسرح فيه وتمرح ميليشيات «الحشد الشعبي» المرتبطة بمرجعية إيرانيّة، هي «الحرس الثوري».

اختار اليمين الإسرائيلي الذي يرمز إليه شخص بنيامين نتنياهو الرهان على «حماس» واستثمار اعمالها من أجل منع قيام دولة فلسطينية في يوم من الأيام. ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اعتقد أنّ لا وجود لرأي عام عربي يعي تماماً أنّ ليس في الإمكان بقاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربيّة والقدس إلى ما لا نهاية. لم يفهم معنى إقدام سائق شاحنة أردني (من معان) على قتل ثلاثة إسرائيليين عند جسر الملك حسين (جسر ألنبي) الذي يربط بين الأردن والضفة الغربيّة. لا يعني ذلك تبرير ما قام به سائق الشاحنة الأردني بمقدار ما يكشف ما تسببت به حرب غزّة من تأليب للرأي العام العربي على إسرائيل من دون مبالاة بالخطر الأكبر على المجتمعات العربيّة الذي مصدره إيران.

المخيف في الأمر أنّ الوضع في المنطقة يسير من سيّئ إلى أسوأ في غياب دور قيادي أميركي من جهة وإصرار نتنياهو على أن لا بديل لديه من استمرار حرب غزّة التي تحولت، من جهة أخرى، إلى حرب الشخص الواحد الذي يمثل فكراً متخلفاً.