بينما يتجاذب الساسة الأميركان الاتهامات في حروبهم الانتخابية ويتجادلون حول كيفية إدارة الشؤون الداخلية وينكمشون في الداخل بشأن المهاجرين والبطالة وتردي الخدمات الصحية وتزايد معدلات التضخم، تتحدث الصين عن دورها العالمي الجديد في شتى بقاع العالم.

إن الصين حالياً تشق طريقها للعالمية بعدما انتهت من محاكاة الفلسفة الشيوعية الماوية في بنية الدولة التحتية. لم تتوقف الصين عند حدود بعض الأخطاء الجسيمة التي جنتها من الماوية، خاصة في ما يتعلق بما اصطلح عليه بـ «الوثبة الكبرى للأمام» التي لم تحقق أهدافها الاقتصادية وأدت إلى خسائر فادحة، ولم تقف أيضاً عند ذكريات الثورة الثقافية المؤلمة، لكنها استفادت من تلك التجارب وبنت عليها تجربة جديدة مبهرة في التخلص من الفقر والقفزة للأمام بطريقة صينية حديثة.

وبفضل ذلك، الصين اليوم تنفتح على العالم من خلال إستراتيجيتها المائية عبر الموانئ المفصلية في القارات كافة إلى جانب إستراتيجيتها البرية عبر مبادرة خطوط الحزام والطريق. تتقدم الصين بمشاريع تطوير البنى التحتية في دول آسيوية وأفريقية وفي أميركا اللاتينية، وفي محاذاة ذلك تقوم بتطوير علاقة الشراكة مع دول كثيرة في مجالات اقتصادية، وتدخل أيضاً في برتوكولات واتفاقيات تعاونية جيوسياسية، وهو ما أدى إلى صعود التعامل بعملة اليوان الصيني بين الكثير من الدول في تجارتها الخارجية خاصة مع الصين وهو ما ينتج عنه بالتتابع هبوط الدولار الأميركي من عرش الهيمنة كعملة صعبة عالمياً.

في مقابل ذلك، تخسر الولايات المتحدة رصيدها الدولي المؤيد لها في القارات كافة، بل حتى في دول أوروبا القارة العجوز تتعالى الأصوات المناهضة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية.

هل لتلك المفارقة انعكاسات مستقبلية؟

بالطبع سيكون ذلك. فنحن أمام طريقين إما انحدار سلمي للولايات المتحدة من سلم القوى الدولية كما حدث مع الاتحاد السوفياتي والاستسلام للوضع القطبي العالمي الجديد بقيادة الصين، أو مقاومة ذلك عبر الدخول في حروب لربما تنتهي إلى حرب عالمية مثلما حصل قبيل الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث انتهت الحروب الصغيرة إلى حروب مباشرة بين الأقطاب الرئيسية.

لا أعتقد بأن العالم يسير إلى الخيار الثاني لأنه يتضمن انتحاراً جماعياً بسبب حيازة الأسلحة النووية والنيتروجينية والبيولوجية وغيرها من أسلحة دمار شامل. وبناء على ذلك، سيدخل العالم أو بالأحرى هو داخل الآن في حالة حرب باردة من نوع جديد يتخللها دور بارز للفاعلين من غير الدول (الجماعات والمنظمات غير الحكومية) والحروب التكنولوجية.

ما يقع في الشرق الأوسط من مواجهة مباشرة بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني الأعزل بمعية التأييد من «محور المقاومة»، هو في حقيقته ليس منفصلاً بل في تقديري يعد انعكاساً للمخاض العسير للمواجهة بين التنين الصيني والصقر الأميركي. ما قادني إلى هذه النتيجة هو اعتقادي العلمي الراسخ بأن الصراعات والحروب ذات علاقة بالهيكلية العالمية للقوى بحيث متى ما تخلخلت أعمدة الأقطاب وباتت في حالة تزحزح في المواجهة سيقود ذلك إلى تبلور نظام عالمي جديد.

ونظراً لطبيعة المواجهة بين الصين وأميركا التي تأخذ شكلاً اقتصادياً في الظاهر لكنه في باطنة جيوسياسي عالمي يجول حيثما تكون هناك مصالح. وفي مساحات الصراعات التي تحمل المصالح تكون هناك ثمة معادلات وأرقام وطرائق خاصة للمواجهة تبعاً لطبيعة الظروف المكانية والزمانية، ومنطقة الشرق الأوسط تمثل قلب منطقة المواجهة.

وبناء عليه، فإنه من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأن معركة طوفان الأقصى ستنتهي بسرعة بل ستأخذ مداها ولربما يستتبعها صعود وهبوط في مؤشرات المواجهات ولكنها دون شك تتعلق بمدى قدرة القوى العظمى وحلفائها في الصمود وتقديم الدعم.

لذا، فمعركة العرب والمسلمين مع الكيان الصهيوني ستكون مؤلمة لكنها دون شك ستفضي إلى وضع جديد لا تكون فيه إسرائيل القوى الإقليمية العظمى الوحيدة وذات اليد الطولى، كما لن تكون الولايات المتحدة القطب الواحد في العالم الذي يصول ويجول.

الصين بعد الماوية، لربما ابتعدت عن الدعم المباشر للقوى الشعبية والراديكالية، حيث تحاول أن تكون علاقاتها مقتصرة على الجوانب الاقتصادية بعيداً عن الفواتير السياسية، لكن ذلك لن يستمر إذ ستجد بكين نفسها عند نقطة التحول وفي منطقة ارتكاز جديدة للقوى عندها سيكون التدخل حتمياً. وبناء على ما سلف، فنحن في المنطقة الشرق أوسطية والخليجية على وجه التحديد على موعد لمشاهد تحولات دولية جديرة بالاهتمام لكونها تتصل بمنظومة الأمن القومي لكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي.