عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وهذا كان منذ زمن طويل، أقنعني مدرس اللغة العربية، المُدرِّس الذي كان تربوياً استثنائياً، أن أشارك بمسابقة القصة القصيرة ... كنت مُحبّاً لهذا النوع من الأدب؛ وأعشق قراءته: فكتبت صفحة واحدة على وجهيها اقتطعتها من كراسة ذات أوراق مخططة؛ رُسِمَ على غلافها أمير الكويت صانع دستورها الشيخ عبدالله السالم رحمه الله.

لم يكن خطي جميلاً ولولا سطور الورقة لنزلت خطوطي وصعدت.

ذهبت لتقديم ورقتي، فإذا بطالب من فصل آخر يُقدّم مَلزمة جميلة ملونة للمسابقة نفسها، خطه كان جميلاً ومرتباً؛ وقد حرص على جمال تغليفها. كدت أعود بورقتي ذات الأطراف الممزقة لولا صوت المشرف الذي طلبها مني ووضع عليها رقماً ودعاني للانصراف .

بعد أسبوعين تم إعلان النتيجة، وفازت قصتي بالمرتبة الأولى؛ وفازت قصة زميلي ذات الخطوط الجميلة بالمرتبة الثالثة، حرصت على قراءة ما كتبه زميلي، لم تكن قصة قصيرة أبداً، ليس فيها جمالاً سوى منظرها، ومع ذلك نال الجائزة الثالثة.

هذا كان أهم درسٍ لي عن أهمية حضانة البيت، فقد اهتمّت أسرته بتعليمه جمال الخط؛ وربما ساعدوه في تلوين قصته وتغليفها، ففاز رغم افتقاره لأي موهبة أدبية.

واليوم وأنا أتذكر الطلبة المتفوقين دراسياً، أتذكر أن أغلبهم كان يأتي إلى المدرسة مصفف الشعر ويرتدي ملابس مرتبة وأحذية لامعة... بعضهم لم يكونوا يملكون الذكاء الذي يجعلهم يتميزون، لكنهم تميزوا بسبب دعم أسرهم ومتابعتهم في المنزل والحرص على منظرهم في المدرسة وضبط سلوكهم.

كثير من الطلبة الأذكياء لم يجدوا أسرة حاضنة، فغلبت عليهم الشقاوة، ولم يهتموا بمنظرهم الخارجي فتركوا انطباعاً سلبياً عنهم وتراجعت درجاتهم وبعضهم ترك التعليم مبكراً.

إنها قضية تربوية فهمناها لاحقاً في حياتنا العملية، فكثير من القيادات لم يكونوا يملكون عناصر القيادة ولولا أسرهم وعلاقاتهم الاجتماعية، لما تسلّموا دفّة القيادة في مؤسسات ساهموا في إفشالها.

كيف نُدرّب المدرسين أن ينظروا إلى جوهر الطالب؟ وكيف نُقنع القيادات بأن يبحثوا عن المواهب الحقيقية لإدارة الدولة بغض النظر عن علاقاتهم الأسرية، أو ما كدّسه آباؤهم من أموال في البنوك؟

الدول الناجحة تُميّز العقول وتقتنص المواهب، والدول الفاشلة تميّز الجيوب وتعشق المظاهر.

اليوم جل هذا الجيل يُعظّم الماركات؛ وماذا يرتدون؛ وأين يسكنون؛ وما هي أصولهم وعلاقاتهم، هذا هو منحدر التراجع، فالتمييز بين المواطنين نهايته مُدمرّة ، فإذا طال التمييز بعض مسؤولي المؤسسات، فسنجد هذه المؤسسات تُدار بأضعف عقولها وأقلّهم موهبة، وسنجد خطط التنمية بيد غير القادرين عليها.

بينما أصحاب القدرات والمواهب مضطرون لتنفيذ خطط فاشلة، يعرفون مسبقاً، بذكائهم، أنها لن تنجح، ونبقى جميعاً محلّك سر بينما الزمن يمرُّ أمامنا .

في وطننا الجديد بشائر نتمنى أن تستمر، وأن يساهم المدرسون في مدارسهم باكتشاف المميزين، وأن يتدرب المسؤولون على التقاط الناجحين؛ وأن ينتشر في المجتمع أولئك الكشافة في كل مكان لاكتشاف المواهب العلمية والرياضية والفنية بعيداً عن العلاقات وتبادل المصالح اللتان هما أقصر طريق لإفشال الدول.