يُعد توغّل القوات الأوكرانية في منطقة كورسك الروسية، الذي نفّذته في السادس من أغسطس، أهم تطور على الإطلاق منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث تمكنت أوكرانيا وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، من قلب معادلة التوازن لصالحها على الأرض رأساً على عقب، باختراق العمق الروسي لأكثر من ألف كيلومتر مع تمركز قوي مستمر حتى الآن في كورسك.

وشكّل التوغّل الأوكراني في كورسك، مفاجأة للجميع حتى للروس، بل يمكن القول إن المفاجأة الحقيقية تتمحور في عدم قدرة روسيا على طرد القوات الأوكرانية من كورسك حتى الآن، بل واعترافها بصعوبة المهمة.

يقف خلف نجاح أوكرانيا في اختراق الحدود الروسية بسهولة ونجاح، أسباب متعددة لكن ثلاثة منها هي الحاسمة. أولها، الدعم الاستخباراتي والعسكري الغربي لأوكرانيا... فقد اقتحمت أوكرانيا الحدود الروسية متسلحة بدبابات ومضادات للطائرات غربية شديدة التطور، ويدعمها من الخلف تخطيط استخباراتي غربي لمواطن الضعف الروسية واستخدام مسيّرات متطورة وأجهزة تشويش إلكتروني عالية التطور والدقة لتمويه الدفاعات الروسية.

والثاني، إنهاك واضح للقوات الروسية جراء قرابة العامين من معارك صعبة في أوكرانيا.

والثالث، نقص حاد في المؤن والمعدات العسكرية الروسية مع فشل استخباراتي وعملياتي واضح.

ودلالة ما سبق يمكن اختصاره في نجاح الرهان الغربي من الأول والكامن في استمرار الدعم لأوكرانيا بأقصى قوى لاستنزاف روسيا وإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا أو التفاوض بالشروط الغربية. فالدعم الغربي القوي لأوكرانيا - كخيار وحيد - استراتيجية تنطوي على ذكاء وقراءة دقيقة لوضع روسيا وللتطورات اللاحقة.

إذ إن كل نجاح تحققه أوكرانيا بما في ذلك الصمود في المعارك ومنع روسيا من التقدم داخل أوكرانيا، يسبّب إحراجاً شديداً للرئيس فلاديمير بوتين داخلياً وخارجياً. ففي بداية الحرب توقعت روسيا ومعها المئات من المحللين العسكرين أن استيلاء روسيا بالكامل على أوكرانيا لن يستغرق أكثر من شهر.

فضلاً عن ذلك، يتسبّب الدعم في إنهاك شديد للقوات الروسية التي تُحارب في معركة شرسة غير محددة الهدف أو الغرض، وبالتالي تقاتل هذه القوات بروح معنوية منخفضة للغاية.

وعلى ضوء كل ذلك، يبقى الرهان الغربي المأمول وهو انقلاب داخلي على بوتين وتولي نخبة جديدة تقبل الانسحاب أو صفقة هزيلة مع الغرب إثر التعثر غير المتوقع لروسيا في أوكرانيا، والذي أفضى إلى احتلال أوكرانيا لكورسك باعتباره أول احتلال لروسيا منذ الهجوم النازي في الحرب العالمية الثانية.

ويُشير التاريخ الروسي إلى أن الهزائم العسكرية لروسيا دائماً ما يكون لها وطأة داخلية شديدة، فانهيار الاتحاد السوفياتي قد بدأ فعلياً منذ تورطه في المستنقع الأفغاني.

بلا أدنى شك ترتسم أمامنا سيناريوهات متعددة ناجمة عن كورسك، أبرزها:

الأول، نجاح روسيا في طرد القوات الأوكرانية من كورسك وإعادة السيطرة على المناطق الإستراتيجية في أوكرانيا، ويعتمد نجاحه على قدرة روسيا على تأمين المزيد من المعدات العسكرية من مصادر خارجية، وإحداث تغيّرات كبرى في التخطيط العملياتى قد يطول تغيير بعض القيادات، والعمل على تقوية الاقتصاد الروسي في ظل تراجعه الناجم عن العقوبات والإنفاق الباهظ على الحرب.

ونعتقد أن استمرار الدعم الغربي القوي لأوكرانيا بعدما ثبتت فعاليته الكبيرة سيعرقل تحقيق هذا السيناريو، أو على الأقل سيتوقف عند نجاح روسيا في طرد القوات الأوكرانية من كورسك وسيكون بصعوبة شديدة.

الثاني، قبول روسيا التنازل عن بعض الأراضي التي احتلتها في أوكرانيا مقابل انسحاب أوكرانيا من كورسك. ويمكن تصور نجاح هذا السيناريو إذا رسّخت أوكرانيا تمركزها في كورسك بصورة أقوى، وتمكنت أيضاً من الاستحواذ على مناطق روسية أخرى.

الثالث، قبول روسيا تسوية شاملة مع الغرب عبر تدخل وسطاء خاصة الصين، ونعتقد أن قبول روسيا أو بوتين تحديداً لتلك التسوية سيكون تحت وطأة استمرار التدهور ورجحان كفة أوكرانيا في الحرب ووطأة الضغط الصيني أيضاً للحفاظ على ما تبقّى من روسيا من قوة وهيبة باعتبارها أهم حليف إستراتيجي للصين.

مع الملاحظة أن خيار استخدام السلاح النووي التكتيكي هو خيار مستبعد بصورة كبيرة جداً، لاسيما وأن الغرب لا يحاول استفزاز بوتين إلى نقطة اللا عودة.