عندما حصل الغزو العراقي للكويت عام 1990 كانت الصورة ضبابية لدى الكثير سواء لِهَوْل الحدث أو ضَغْط المُفاجأة أو الرغبة في اعتماد الحِكْمة مَدخلاً لعدم تفاقم الجريمة... الدكتور سليم الحص رئيس وزراء لبنان الأسبق كان الصوت الأول عربيّاً ودوليّاً الذي دان الغزو وندّد به وانتصر للحقّ الكويتي رغم كلّ التعقيدات التي كانت تعيش فيها السياسة اللبنانية آنذاك وسيطرة دول الإقليم على القرار السيادي.
سليم الحص، الأستاذ الجامعي، المصرفي القدير، السياسي الشريف «الآدمي»، الوطني والعروبي بِصِدْق وتَحضّر، الكويتيّ الهَوى لا لأنه عمل فيها وكان شريكاً في ترسيخ سياسات مالية واقتصادية بل لأنه آمن بالتجربة الكويتية واعتبرها نموذجاً للتعدّدية والديموقراطية والحداثة والحريات العامة... وفي أحاديثي الطويلة معه كان يقول لي إنه وهو في الكويت كان يخشى على التجربة، وإن الأوكسجين الكبير والنظيف في دول صغيرة يُزعِج الدول المحكومة من حزب واحد حيث تتضاءل الحُرّيات وتتّسع السجون ويُصبح الولاء لـ«القائد» وفرماناته أهمّ من الولاء للدولة.
دخل الحياة السياسيّة وخرج منها نظيف اليد والكفّ. مرفوع الجبين والهامة. صار المَثَل والمِثَال في دولة حَكَمَتْها للأسف الشديد الميليشيات الطائفية ثم منظومة المال الفاسد مع الميليشيات مع سيطرة الإقليم، وكم كانت مُهمّته صعبة بل مُستحيلة وسط هذا الهدم المقصود للدولة وهو الذي لم يملك سوى سلاح الكلمة ونقاء الرؤية وصوابيّة الموقف.
سليم الحص نموذج عربي وعالمي للسياسي الذي غلّب المبادئ بالمُطلق على المصالح فاستحق لقب «ضمير لبنان» عن جدارة. يعرف كلّ رئيس جمهورية عمل معه أنه لا يُساوم على مصلحة لبنان واللبنانيين وأنه يُفضّل العودة إلى منزله على أن يكون شاهداً على كلّ ما يمسّ السيادة وينتقص منها.
وبالحديث عن منزله، حيث زرته أكثر من مرة، شقة مُتواضعة في منطقة شعبية تدعى عائشة بكار، يصعد إليها عبر السلالم لأن المصعد غالباً ما يتعطّل. دائم السؤال عن الكويت والكويتيّين. حدّثني مِراراً عن تبعات موقفه الأول ضِدّ الغزو العراقي وكواليس المُحادثات المحلية والإقليمية التي دارت معه وتمنّت عليه أن ينتظر تبلور موقف أشمل، وكم من «موفد» زاره ناقلاً إليه التحذير والتهديد لكنه لم يسمع إلا صوت ضميره ولم يرَ سِوى كويت النهضة والنموذج الذي تمنّى تعميمه.
بِكلّ صدق، لم أعرف سياسيّاً لبنانيّاً اعتمد مبادئ الصدق والشرف والأمانة أكثر من سليم الحص، يتحدّث في الشأن العام لكنه لا ينسى الشأن الخاص والاطمئنان الشخصي والسؤال عن الأسرة والأولاد. وعندما علم أن بناتي يدرسن في الجامعة الأمريكية في بيروت حيث كان أستاذاً فيها لسنوات، استحلفني - وهو رئيس وزراء - أن أعطيهن رقم هاتفه وقال: «قل لهم انو عمو سليم موجود ويعتبروني متل أبوهم ويتصلوا فيني بأيّ وقت سواء للجامعة أو أي شي بيحتاجوه... والله بزعل إذا ما اتصلوا بعمو سليم».
ومن باب الوفاء يا «عمّ سليم» أقول إننا ككويتيين فقدنا قامة عربية – عالمية قلّ نظيرها. خسرنا كلمة الحقّ في وقتها. يا من نَصَرْتَ الكويت في أحلك ظروفها غير آبه بـ«التعليمات» و«التوصيات» و«التوجيهات». يا من رفعت الموقف سلاحاً علّه يُحرّك ما في الضمائر والقلوب. وداعاً يا كبير في زمن عزّ فيه الكبار... وداعاً، علّ في سيرتك ومسيرتك دَرْساً لكثيرين تاهوا في خريطة المصالح وأضاعوا بُوصلة العلاقة بين السياسة والأخلاق.