لا تريد إيران الذهاب إلى حرب شاملة، ولا إلى رفْع مستوى التوتر في الشرق الأوسط، من دون التخلي عن «الانتقام» الذي لا بدّ منه، ولكن ليس في ظل وجود أكبر قوة عسكرية أميركية وحلف «الناتو» على أهبة الاستعداد ويدهم على الزناد.
ولن يُدفع «حزب الله» إلى حربٍ يرغب فيها بشدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بفعل انتشار حاملات الطائرات الأميركية ذات المهمات الهجومية والمتحفّزة للدفاع (والهجوم) عن إسرائيل، كما وَعَد أكبر القادة في البيت الأبيض.
ولذلك انتقل الجهدُ العسكري لإسرائيل نحو لبنان لتبتعد قليلاً عن غزة من دون وقف الحرب هناك، ولتبدأ «حرب جباية الثمن»، بحيث يدفع «حزب الله» الخسائر الأكبر من اليوم فصاعداً مقابل دعم «طوفان الأقصى»، مستفيدةً من الزخم الغربي الموجود في الشرق الأوسط. ليبقى السؤال: إلى متى سيتحمّل «حزب الله» من دون ردّ أعظم؟
قال قائد الدفاعات الجوية الإسرائيلية السابق اللواء تسفيكا حاييموفيتش ان «هناك تغييراً في طبيعة الحرب والقتال في الشمال (على الجبهة اللبنانية). إذ يعمل الحزب على مستويين، الأول على المدى الذي يتوسع ليضرب مناطق في العمق، والثاني استهداف مواقع مختلطة من العسكر والمدنيين ويعلن مسؤوليته عن ذلك، وهذا ما لم يفعله سابقاً.
أما إسرائيل فهي تنفّذ عمليات استباقية وهجومية أشد قسوة وشدة. ما لدينا هو حال استنزاف وتطبيع لوضع الضربات المتبادلة، وكل طرف يوسع هامش المواجهة، والوقت يمضي».
أما الناطق السابق باسم الجيش الإسرائيلي العميد ران كوخاف، فقد أكد ان «حزب الله ونحن نلعب لعبة الضربات المتبادلة وهي محاولة لتجميل تبادل الضربات النارية».
مما لا شك فيه ان إسرائيل سخّنت الجبهةَ مع لبنان ورفعتْ من مستوى التراشق المؤلم والتصعيد وكأنها تتحضّر لحرب كبرى لتصل إلى مساومة لإعادة المستوطنين النازحين الذين ارتفع عددهم ليتخطى مئة ألف الذين فقدوا الثقة بجيشهم وحكومتهم ولا أفق لعودتهم إلى مستوطناتهم ولا لمدارس أولادهم. وهذا لا يعني ان نتنياهو لن يذهب أبداً لحرب تدمير نسبي مستخدماً سلاح الطيران (وليس المشاة) لإظهار نياته التصعيدية.
ومن الظاهر ان إسرائيل تدفع «حزب الله» لاستخدام صواريخه المتوسطة والبعيدة المدى ليتعرّف عليها العدوّ ويكتشف فعاليتها وقدرتها التدميرية ودقة إصابتها وإمكان التصدي لها واعتراضها والذي يسمى في المصطلح العسكري أسلوب «الاستطلاع بالقوة»، وذلك من خلال استفزاز الحزب بتوسيع نطاق الاشتباك الذي بدأ في الثامن من أكتوبر دعماً ونصرة لـ «طوفان الأقصى».
وفي خلفية هذا «الاستطلاع» وأهدافه أن مدى فاعلية هذه الصواريخ يساعد القيادة السياسية - العسكرية الإسرائيلية لاتخاذ قرار التصعيد الكامل أم خفْض التصعيد والحفاظ على مستواه السابق.
وتعتمد إسرائيل على الزخم العسكري الغربي الضخم واتهام «حزب الله» بحرق مناطق داخل فلسطين المحتلة وسط تضخيمٍ للمساحات في الإعلام الإسرائيلي، علماً ان الحرائق - بحسب الخبراء العسكريين - ناتجة عن بقايا الصواريخ الاعتراضية لسقوطها في مناطق مأهولة لا تستهدفها صواريخ «حزب الله».
وبالنسبة لـ «حزب الله»، فإن معركةَ الإسناد هي موقف لا يمكن المساومة عليه ولا يتعلق بالثمن العسكري والخسائر البشرية والمادية التي يدفعها دعماً لغزة المحاصَرة والتي تقتل فيها إسرائيل السكان في إبادة جَماعية وتدمّر ممتلكاتهم والبنى التحتية. وهذا الموقف لا يضع في الميزان التفاوت في القوة العسكرية بين الطرف الإسرائيلي واللبناني، ولا يتعلّق بالمدة الزمنية (لاستمرار فتْح الجبهة) التي رَبَطها «حزب الله» بيوم الوقْف الكلي للحرب على غزة، رافضاً أي مساومة على هذا الأمر مهما عظمت التهديدات العسكرية والديبلوماسية.
وقد وصلت الرسالة واستوعبها حلفاء إسرائيل. ولهذه الأسباب، وفي ظل انخفاض مستوى العمليات العسكرية في غزة، فإن من المتوقع ان تتمادى إسرائيل على الجبهة اللبنانية أكثر مما كانت عليه الحال سابقاً، وخصوصاً انها أعلنت عن نقْل الرجال والمعدات والجهد العسكري نحو الحدود مع لبنان.
وفي الأيام الأخيرة، زادت حركة المسيّرات الإسرائيلية اليومية والدائمة فوق كل قرية لبنانية إلى مستوى لم تعهده المقاومة سابقاً، لتفرض قواعد اشتباك جديدة تتمثل برفْع مستوى التدمير ودائرة المستهدَفين التي توسّعت لتشمل عناصر غير معنيين مباشرةً بالوحدات القتالية المشتبكة مع إسرائيل ولكنهم موجودون في مناطق الاشتباك في زيارة لعوائلهم.
بالإضافة إلى ذلك، فقد استخدمتْ إسرائيل سياسةَ الحرب الموسّعة لضرب هدف صغير، كما فعلت في النبي شيت حيث دمّرت مساحة شاسعة عند استهداف مخزن أسلحة، مع إظهار الشدة التدميرية التي رفعت من مستواها في الأيام الأخيرة كرسالةٍ لِما سيعتمده سلاح الطيران من الآن وصاعداً. وقد تجلى ذلك باستخدام سلاح الطيران والقنابل الضخمة مقابل هدف فردي في مناطق الاشتباك عدا عن سلاح المسيَّرات الهجومي الذي ملأ سماء الجنوب والبقاع.
وتعتقد المقاومة ان إسرائيل تدفعها لردٍّ قوي بهدف إطلاق يد تل ابيب التدميرية ضد المدنيين والمقاومين، لتحصد في لبنان ما حصدته في غزة من مئات الشهداء يومياً.
ولذلك فإن إسرائيل تحاول جرّ «حزب الله» لمسارٍ تَصادمي أكبر لأنها لا تملك خطة لوقف الجبهة اللبنانية مع المحافظة على مستوى الحرب المستمرة في غزة.
لقد ارتفعت الأصوات الداعمة لحزب الليكود الذي يترأسه نتنياهو إلى مستوى غير مسبوق لم يشهده في الأعوام الأخيرة. فقد ظهر رئيس الوزراء على انه يستطيع توجيه الضربات لعواصم ودول مختلفة ويغرق قواعد الاشتباك، وأن له الجرأة على التصدي لمعاودة فرض الردع الذي فقدتْه إسرائيل.
ولا يرى المستوطنون ان نتنياهو يحارب بسلاح أميركي ووجود حلف «الناتو» الضخم لمساعدته في دفْع المنطقة إلى التصعيد.
ولذلك، فإن رئيس الوزراء مستعدّ لجميع السيناريوات بما فيها تدمير لبنان بسلاح الطيران إذا استطاع دفع «حزب الله» لاستخدام صواريخه المدمّرة، ليلبس جلد الضحية كما يفعل دائماً، متسلّحاً بالدعم اللا محدود الذي يتمتع به من الغرب.
وهذا ما يدفع «حزب الله» لتحمُّل حرب إسرائيل «لجباية الثمن» والوقوف في وجه أقوى قوة تدميرية دون الذهاب إلى المستوى التدميري الذي يدفع نتنياهو جميع أعدائه إليه، لتتحوّل المعركة إلى عضّ أصابع وصبر إستراتيجي وحرب من الممكن احتواؤها.