لم يَعُدْ مبالغةً القول إن «الهلع» صار سيّد الموقف في لبنان.. لم تَبْقَ سفارةٌ من دول العالم إلا وحذّرت رعاياها من البقاء في قلْب الخطر، وشركاتُ الطيران العربية والأجنبية نأت عن المجيء إلى مطار بيروت.. فخدمة «الخبر السريع» تضجّ، كما الشاشات، بتوقّعاتٍ عن ان الحرب على الأبواب، أو أنها مسألة وقت، أو أنها قاب قوسين وما شابه.

ولم يكن الخرقُ الإسرائيلي المتعمّد ومن على علوٍّ مخفوض، لجدار الصوت فوق بيروت وضواحيها، لأكثر من مرة «سوى» لعبٍ بأعصاب اللبنانيين الذين بدوا وكأنهم في «بروفة» حربٍ إستعادوا معها كل الذكريات المأسوية عن فصولِ النزوح والتهجير والموت والدمار والأيام السود التي لم يشفوا من جروحها العميقة.

... انها حربٌ إندلعت قبل ان تبدأ. وما كان يَجري على جبهة الجنوب على إمتداد عشرة أشهر تَمَدَّدَ شَبَحُهُ ليخيّم على الداخل اللبناني، وخصوصاً بيروت وضاحيتها الجنوبية... خوفٌ، ذعرٌ، قلقُ، حَبْسُ أنفاسٍ... هكذا يبدو المشهدُ اليومي وسط سعي من الأهالي للبحث عن «ملاذِ آمن» في مناطق قد تكون أقلّ خطراً، وهي الحال التي تعاظمت عقب إغتيال القائد العسكري في «حزب الله» فؤاد شكر وتوعُّد الحزب بالردّ وتلويح إسرئيل بالردّ على الردّ.

بَحْثٌ مُضْنٍ عن ملجأ آمِن دونه عثرات شتى، أوّلها وأكثرها إيلاماً الإرتفاعُ الكبير في أسعار الشقق والبيوت المؤجَّرة في «المناطق الآمنة» بحيث بات الأمان في متناول يد المقتدرين فقط، فيما الغالبية العظمى من أهل بيروت والضاحية الجنوبية وقرى الجنوب لا يملكون هذه الرفاهية بعدما سحقتْهم ظروف الحرب والاقتصاد في البلد المنكوب الغارق في الأزمات.

نزوحٌ محدود

حتى الساعة ما زالت عملياتُ الفرار من «أماكن الخطر المحتمَل» محصورةً بالخائفين والمذعورين الذين يستبقون الأمور ويسعون لإيجاد منازل لهم في المناطق البعيدة قبل وقوع الحرب. أما خطط النزوح والإيواء لأعداد كبيرة من النازحين من الجنوب والضاحية وبعلبك والهرمل فما زالت على الورق فقط وفي مرحلة الإستعداد، كما تشير بعض المصادر ولم تتحوّل إلى واقع.

وكان اللواء محمد خير رئيس الهيئة العليا للإغاثة وفي حديث سابق إلى «الراي» أشار إلى أن مراكز الإيواء متوافرة لكن المشكلة تكمن في عدم القدرة المادية على توفير ما يحتاجه إيواء أعداد كبيرة من النازحين، بدءاً من الماء والكهرباء وصولاً الى التغذية واحتياجات النظافة وغيرها. غلى

وتشير المصادر إلى أن خطط الإيواء التي وضعها «حزب الله» منذ شهر أكتوبر الماضي ترتكز على تعاون وثيق مع تيار المردة في الشمال والحزب التقدمي الاشتراكي في عاليه والشوف لتتمكن هذه المناطق من إستقبال أعداد كبيرة من النازحين في حال حصول نزوح مكثف.

ورغم كون النزوح ما زال محدوداً إلا أن اعداد الذين يبحثون عن بيوت في المناطق الجبلية على تزايد مستمرّ مع ارتفاع قرْع طبول الحرب المجهولة الملامح.

وتقول داليا، وهي صبية تسكن في حارة حريك قرب المبنى الذي استُهدف في الغارة الإسرائلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية: للمرة الثالثة أعيش جنون الخوف ذاته: الأولى كانت عند انفجار المرفأ في العام 2020 وتَحَطُّم الزجاج في بيتنا رغم المسافة، والثانية حين استهدفت إسرائيل مبنى قريب منا وهدمته على رؤوس أهله بحجة إستهداف مسؤول في «حزب الله»، والثالثة حين دوى جدار الصوت في شكلٍ لم نعهده سابقاً وإهتزّت جدران بيتنا من جديد منذرة بأن تُطْبِقَ على رؤوسنا. لم أعد أحتمل وسأفتش عن بيت في أبعد بقعة ممكنة. لي أصدقاء في جرود جبيل ولا بد أن أجد عندهم بيتاً يأويني مع عائلتي رغم حساسية وضع المنطقة الطائفي".

«برغشة ما عاد في بالحي»، تقول هيام الساكنة في عين السكة على تخوم مخيم برج البراجنة للفلسطينيين (في الضاحية)، وليس في حيّنا وحده بل في أحياء كثيرة في المريجة والمشرفية والغبيري والشياح والجاموس. وتضيف: «القادر على مغادرة بيته فَعَلَ ذلك. بعضهم إستأجر وبعضهم قصد أهلاً وأقارب له في جبيل أو في قرى مختلطة في البقاع او إقليم الخروب والشوف. الناس خائفون وحقّهم أن يخافوا. إسرائيل غدّارة ولا تؤتمن على أي تطمينات يمكن أن يعطيها سفراء أو مسؤولون. فقد قالوا إنهم لن يستهدفوا الضاحية لكنهم استهدفوها ودمّروا البناء فوق رؤوس الأطفال والنساء.»ما متت ما شفت مين مات؟".

بين الجشع والمواطنة لمَن الغلبة؟

في بحمدون الضيعة التي سرتْ شائعاتٌ عدة حول فرار أعداد كبيرة من أهل الضاحية نحوها وتمضيتهم الليل في سياراتهم في أحيائها، يؤكد رئيس بلديتها وليد خيرالله لـ «الراي» انه «حتى اللحظة لم تشهد البلدة سوى استقبال أربع أو خمس عائلات فيها وثمة بيوت كثيرة خالية للإيجار وبأسعار معقولة».

ويقول: «لم نشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار الإيجارات، لكن الأمر يتوقف على العرض والطلب ولا بد ان ترتفع الأسعار إذا ازداد الطلب، ونحن كبلدية لا يحقّ لنا التدخل في بدلات الإيجار وحتى الآن لم نتلقّ اي تعميم لا من الحزب الاشتراكي ولا من الهيئة العليا للإغاثة او أي مرجع رسمي، ولكن نحن ووفق أخلاقنا وحسّنا الوطني لا يمكن أن نترك أحداً ينام في سيارته وإذا اضطرنا الأمر، سنفتح المدرسة الرسمية في البلدة لاستقبال النازحين، ففي ظرف كهذا لا يمكن أن نظلم إخوةً لنا».

ما يؤكده رئيس بلدية بحمدون لا يطابق واقع البلدات المجاورة التي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار البيوت والشقق.

ففي مدينة عاليه التي باتت ملأى بالمواطنين الآتين من بيروت وضواحيها، تم تأجير بناية بأكملها لمدة شهر بمبلغ 400 دولار في الليلة الواحدة، والبناية تتسع لعدد كبير من العائلات بحيث لو تَقاسموا المبلغ لا يعود عبئاً ثقيلاً عليهم، كما يقول أحد الوكلاء العقاريين في المنطقة. وهذا الوكيل، الذي يعمل بين فالوغا وحمانا وصوفر وعاليه، يؤكد أن الأسعار منطقية «فالبيوت الكبيرة في بعض القرى مثل حمانا وفالوغا لا يمكن تأجيرها بأقلّ من 1000 الى 1500 دولار في الشهر، ولو أرادت العائلة ان تستأجر غرفة في فندق لكلّفها ذلك أكثر بكثير من إيجار البيت.

وأحد الفنادق في المنطقة يطلب 80 دولاراً للغرفة في الليلة ما يجعل كلفة النهار للعائلة الواحدة لا تقل عن مئتي دولار».

وهذا الارتفاع في بدلات الإيجار، بهدف الاستفادة ولو على حساب أخوة في الوطن، لمستْه لمس اليد السيدة «راوية» التي أرادت الهروب من بيروت رغم كونها ليست عرضة لخطر مباشر. لكن حالتها العصبية وتجاربها السابقة دفعتْها للبحث عن أبعد نقطة ممكنة عن بيروت. اتجهت نحو فالوغا للبحث عن مسكن صغير، وعبر الهاتف اتفقت مع أحد اصحاب البيوت على تأجيرها بيتاً صغيراً بمبلغ 400 دولار لمدة شهر. وبعدما وافَقَ حَمَلَتْ ما خفّ من أغراض برفقة ابنتها وتوجّهت إلى القرية الجبلية. وحين إتصلت بصاحب البيت للاستعلام عن العنوان فاجأها بالقول إنه أجّر البيت بمبلغ أكثر من مضاعَف، وعند معاتبته تَحَجَّجَ بأنها لم تحوّل له المبلغ فوراً لتأكيد الاتفاق.

ملاجئ غائبة

الأمر ذاته حصل مع «علي» الذي لم يجد لعائلته بيتاً بأقل من 2000 دولار في المنطقة رغم بحثه المضني، وكان سابقاً حاول في منطقة برمانا ووجد الأسعار خيالية. وحدُه أحد الأصدقاء دلّه على صديق مشترَك عرض عليه بيتاً في بحمدون بسعر مقبول، ولولا ذلك لفضّل البقاء في الضاحية على إنفاق كل ما يملكه على إيجار بيتٍ قد لا يؤمن الأمان المتوخى. لكن المشكلة، يقول علي، «أن غالبية المباني لا ملاجئ محصّنة فيها، وكل الطبقات الواقعة تحت الأرض إما تحوّلت مستودعات او مواقف سيارات. وحتى الملاجئ لا يمكن الركون إليها فالضربات الجوية الإسرائيلية تُنْزِل المباني على رؤوس أهلها كأوراق اللعب وتصبح الملاجئ والطبقات السفلى مقابر لأهلها يُدفنون فيها أحياء». ويضيف: «سمعت أن أميركا سلّمتْ إسرائيل قنابل MK 83 زنة نصف طن، فأي مبنى او ملجأ يصمد أمامها؟».

القصص ذاتها تتكرر في البلدات والقرى التي تبيع «الأمان» للناس بأغلى الأسعار وتفرض شروطها على المستأجرين. فالبيت لا يمكن ان يضمّ إلا عائلة واحدة وعليها الدفع مسبقاً سواء لمدة شهر أو ثلاثة أشهر ويمكن لصاحب المنزل أن يلغي العقد الشفوي في أي لحظة إن شكّ بهوية المستأجر: «مَن يضمن ألا يكون عضواً مسؤولاً في حزب الله فيورّطنا ويورّط البلدة بأكملها؟» يقول سعيد من بلدة فالوغا.

وليد جنبلاط والحزب الاشتراكي كما تيار المردة والوزير السابق سليمان فرنجية عمّموا على محازبيهم حيثما وُجدوا الترأف بالنازحين وعدم تحميلهم أعباء مالية إضافية.

وكان جنبلاط قد عقد اجتماعاً لمسؤولي «الاشتراكي» في المختارة وطلب منهم إحصاء شاملاً للمنازل التي يمكن استخدامها لاستقبال النازحين، ودعا لتشكيل لجان أحياء تَحَسُّباً لِما يمكن أن يحصل وتفعيل دورها في حال حصول موجة لجوء كبيرة في حال وقوع الحرب.

من جهته أصدر تيار المردة بياناً تمنى فيه على محازبيه ومناصريه لا سيما في بعبدا وعاليه والشوف «استقبال الأخوة النازحين بما هو متعارف عليه من قِيَمِ وحُسن ضيافة أهل الجبل» وتمنى على المالكين «مراعاة المعدلات الطبيعية لأسعار الشقق والتعامل مع المرحلة بمنتهى التضامن الوطني والإنساني».

بعض هذه التمنيات والتوجيهات أتى بثماره بالنسبة للإلتزام بعدم رفع الإيجارات فيما أعداد كبيرة من اصحاب البيوت صمّت آذانها عن اي توجيهاتٍ ولم تُصْغِ إلا إلى صوت.. مصلحتها.