حانت ساعة المُكاشفة مع هدوء العواصف السياسيّة في البلاد وانحسار غُبار المُواجهات والتفرّغ لمُقاربة الأمور بهدوء تحليلاً وتشخيصاً.

إذا كانت الحكومة عبر وزير ماليتها أضاءت على المشاكل الموجودة من دون التطرّق، كالعادة، إلى الحلول. وإذا كان التجاهل في زمن البيانات «الوهميّة» سابقاً له ما يُبرّره، فإن الصمت في زمن الإعلان عن «طيران» الاحتياطي العام يدخل حكماً في باب الشراكة في الخطأ والتقصير ورُبّما... التواطؤ.

لا يختلف اثنان على أن الكويت تمرّ بفترات صعبة اقتصادياً، وتعبر نفقاً إما أن يُوصّل إلى ضوء في نهايته أو ندخل في نفق آخر، وهذا يرتبط تحديداً بأداء الحكومة. ومُنذ بداية وعينا، لا نجد في تاريخ الأداء الحكومي سوى التفكير بحلول لحظيّة آنية وهذه مُشكلتنا الأزليّة. فقد أدّى معيار التعامل مع المُتطلّبات والتحدّيات منذ ستّينيّات القرن الماضي إلى خلق كيان اقتصادي هجين عبارة عن توليفة مُشتركة بين نهج اشتراكي ونهج نفعي ونهج ارتجالي ونهج تَواطُؤ بين السلطات قائم على الصفقات والخوف والمصالح المُشتركة.

كانت الإدارة بمفهومها العلمي الضحية الأولى لهذه التوليفة وتحوّلت الدولة إلى الراعي المُهيْمن والمسؤول عن كلّ شيء كما في دول حلف وارسو سابقاً، وتَكرّست علاقة غير صِحّية مع المُواطن قائمة على الأخذ من دون عطاء وعلى التّواكُليّة وسياسة الخدمات المُوجّهة.

والرابط المُشترك بين هويّة الإدارة الاقتصادية سابقاً وبين إدارة العلاقة بين الحكومة والمجلس كان تهميش دور القطاع الخاص ومُساهماته في خلق التطوّر والتوازن والاستقرار في بلد ينفرد بأنّ تُجّاره كانوا جزءاً أساسياً من تكوينه التاريخي. ويمكن القول إن الكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي تُحارب القطاع الخاص وفي الوقت نفسه تشكو ليل نهار من عبء القطاع العام وخسائره.

تم إيهام الناس أن صيغة هذا الكيان الاقتصادي الهجين هي الأفضل لهم، لذلك سارت الحركة السياسية في غالبيتها باتجاه حمايته خوفاً من تغيير يخلط الحسابات... والسّلام، كلّ السّلام، على البرامج والمشاريع التنمويّة.

من تطبيق نظام الجمعيات التعاونية الاشتراكي، إلى مبدأ الرعاية السكنية الاشتراكي أيضاً، إلى الهيمنة على قطاعات الصحة والتعليم والمُؤسّسات العامة الضخمة، إلى سيطرة مجلس الأمة على الحياة الاقتصاديّة عبر تخويف الحكومة وبالتالي جعلها تتمادى في تطبيق الفكر الاشتراكي (المُشوّه أيضاً) لإرضاء النواب والناخبين بالخدمات والتعيينات والهِبات والعطايا من دون أيّ حساب للمُستقبل. الحصيلة هي ما نراه اليوم... الاحتياطي العام طار.

وسوّق المُستفيدون من الوضع السابق أن تغيير هذه الصيغة سينتج عنه أضرار بالمُواطن، وهو الأمر المُعاكس تماماً. فعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى ما قامت به دولة الإمارات في أبو ظبي حيث خصّصت لشركات القطاع الخاص أراضي بأسعار مُعيّنة فأسّست عليها الشركات منازل باعتها للمُواطنين بتكلفة أوفر من تشييد الكويتي لمنزله. ويلمس المُواطن أيضاً أنه حتى في جمعيات القطاع الخاص التعاونية هناك إدارة مُتفوّقة وبضائع أحياناً أرخص وأجود من الجمعيات التعاونية العادية.

وباستثناء شركة المطاحن، تُسجّل الشركات الكبرى التي تُدار من القطاع العام خسائر كبيرة لا تَرِد في مُؤتمرات المسؤولين، وإن وردت فعلى استحياء، لكن هؤلاء المسؤولين أنفسهم يتحدّثون في مجالسهم الخاصة عن استحالة تحقيق أرباح بوجود آلاف المُوظّفين المفروضين من قبل النواب لأسباب انتخابية، وبوجود قيود تمنع الإدارات من تنظيم العمل وهيكلة المُؤسّسات وتطويرها.

نصل إلى الشّعار الأكثر حساسيّة في هذا المجال وهو أن «جيب المُواطن لا يُمسّ». حسناً، لا نريد أن نقول إنّ من غير الطبيعي مثلاً أن يدفع كل بيت ديناراً واحداً فقط في الشهر مُقابل خدمات إزالة النفايات (وهو أمر لا مثيل له في كل دول العالم القريبة والبعيدة) بل نقول أيهما أفضل للمواطن: أن يدفع رسماً لإصلاح واستخدام وتطوير الطرق أسوة بكل دول الخليج أو يدفع أضعاف ذلك لتصليح تضرّر سيارته؟ أن يدفع رسماً لتطوير التعليم (وهو من مُهمّات الدولة الرسمية وفق الدستور) أو يدفع مئات الأضعاف لوضع ابنه في مدرسة خاصة بعد النتائج المُتفاوتة بين الخاص والعام؟ أن يدفع رسماً لتحسين الخدمات الصحية أو يدفع أكثر من ذلك بكثير في المُستشفيات الخاصة التي بدأت تستقطب كفاءات طبية عالية المُستوى؟ ولا نريد الحديث عن بقية القطاعات بل يكفي أن نسأل عن مِرفق البريد ليأتي الجواب: الضّرب في الميّت حرام.

هذه أمثلة بسيطة يجب أن تترافق مع تطوير الكفاءة الإداريّة الحكوميّة كي لا يقال إن المواطن دفع رسماً والخدمات تزداد سوءاً. ويجب أن يكون للقطاع الخاص الذي بنى خبرات على مدى عقود الدور الأساسي في إعادة تطوير مُختلف القطاعات خصوصاً المشاريع الكبرى.

كلّ شِعارات الماضي مَهما كانت جذّابة وكُلّ سلوكيات الماضي مَهما كانت تحظى بغطاء تجميلي، هي التي أوصلتنا إلى نفاد الاحتياط... والأرقام أصدق من خطاب انتخابي أو شعار سياسي. واليوم لا فرصة للتغيير إلا بالتّحلّل من النهج الهجين المُشترك بين الاشتراكي والنفعي والارتجالي.

ليس هنالك أفضل من الوقت الراهن، وعلى الحكومة مُواكبة التغيير بتعديلات وتعيينات سريعة على مُستوى المناصب والحقائب والرؤية والبرنامج والخطة. لا نملك ترف الانتظار خصوصاً أن صاحب السمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد فكّ بقرار واحد كُلّ القيود التي كانت تُكبّل السلطة التنفيذية.

هل نتوقّع تغييراً أم ننتظر لـ«تطير» أمورٌ أخرى غير «الاحتياطي»؟