تصحو على تغريدات الطيور وصوت أمواج البحر في الميناء الغربي، لا يعكر جو يونيو البديع شيء سوى قِطعٍ من الغُيوم تتراقص في السماء بين قرص الشمس ومياه البحر، وتصطحب معها رشات من الرذاذ المتقطع.

تركب الباص الذي يتحرك بانتظام كل ربع ساعة تقريباً من موقف الباصات في الميناء إلى قلب مدينة أدنبرة، فتمر في الطريق على بيوت وحدائق وكنائس وكاتدرائيات وتماثيل لفرسان وعلماء، صُفّت جميعاً في نظم كأنها في صندوق دُمى الأطفال.

يصل الباص إلى مركز المدينة قرب محطة القطار الرئيسية ويفرلي التي يعود إنشاؤها لعام 1846 ميلادي.

لا يستغرب المرء في هذا الجو وهذه الأجواء المخملية أن يرى حالات من الترف البشري المتمادي أحياناً، ربما جاء هذا التمادي نتيجة لفرط الجمال في كل شيء، في عذوبة الهواء، في جَمال الطبيعة وتنوعها، في جَمال الانسان والطيور وحتى في مذاق أصناف الحلوى والكاكاو وألوان المشرب والمأكل.

هذا الجَمال الطاغي يكاد يسلب الصاحي عقله فما بال الثمل، لكن هناك في قلب المدينة وأسفل قلعتها الشاهقة الساحرة والمنيعة، ترى مجموعة من الجموع المحتشدة متحلقين حول منصة العرض التي عادة ما يعزف عليها الشبان والشابات بلباسهم الأسكتلندي التقليدي وبشرتهم الوردية وشعورهم الشقراء في آلة الهبان أو القربة، هذه المنصة الكلاسيكية غالباً ارتقتها هذه المرة فتاة تغطي عنقها الكوفية الفلسطينة، وهي تخطب في الجموع المحتشدة متحدثة في مكبر الصوت عن قضية فلسطين، والحيف الجاري عليها.

تتحرّك الحشود في الجادة خلف الفتاة صاحبة الكوفية بجانب المعرض الوطني الأسكتلندي الذي يضم أعمال فنانين مثل فان غوغ وكلود مونيه وشارلز فرانسوا باتجاه المدينة القديمة وقلعة أدنبرة الشهيرة.

الفتاة تصيح في الجموع «فلسطين حرة...» والجموع وهي ترفع أعلام فلسطين خفّاقة تتلاعب بأطرافها هبات الهواء العليلة، يُنادي من ورائها بصوت عالٍ يُسمَع في الأرجاء «حرّروا حرّروا فلسطين...».

هل أيقظت فلسطين وغزة والدماء الجارية فيها ضمائر شعوب حول العالم؟ هل أيقظت هذه الدماء شعوباً كانت في حال تضليل وكانت شعوباً معروفة بانتشائها حتى مع وجبة الإفطار؟! نعم لقد فعلت غزة ذلك إلى حد كبير، فقد تغيّرت الصورة الهوليودية عن الفلسطيني والعربي كونه إرهابياً وليس فدائياً يناضل من أجل أرضه، وتغيّرت صورة الإسرائيلي فلم يعد هو الشعب المظلوم الذي يجب أن يتم سرقة أرض الآخرين لأجله لتعويضه عن حالات النفي والتشريد التي عاناها في أوروبا.

في أحد البرامج التلفزيونية في اللغة الإنكليزية تقابل المذيعة أحد الناشطين في ما يسمى الحراك الفلسطيني في المملكة المتحدة، ويقول الناشط إن عشرات الشركات توقفت عن التعامل مع الكيان الصهيوني خصوصاً في مجال السلاح، وإن بعضها تحول إلى الصناعات المدنية بدل الصناعات العسكرية التي كانت تمد الكيان المحتل بالسلاح. كما أنه تحدث عن إغلاق شركات ومصانع كانت تعمل لصالح إسرائيل.

المتحدث باسم الحراك الفلسطيني هناك يذكر أن كل ذلك جاء ليس فقط بفضل الحراك، بل بسبب جرائم إسرائيل التي حرّكت الضمائر.

فكم هي غالية هذه الدماء البريئة المسفوكة، وكم هو أمر محزن أن يتم قتل نساء وأطفال وعزل من السلاح لأن بينهم المقاوم الذي يدافع عن أرضه، وكم هو مؤلم رؤية دول وصلت قبل نصف قرن إلى سطح القمر واستطاعت استشعار ورؤية طبقات الجو واختراقها ذهاباً وعودة للأرض دون أذى، ولا يستطيع قادة هذه الدول رؤية الفرق بين إسرائيل الكيان الغاصب وبين فلسطين المسلوبة من أهلها، لا يستطيعون بالرغم من يقظة ضمائر شعوبهم أن يفرقوا بين حق أبلج وباطل لجلج.