بَلَغَ الصراعُ الدائرُ في قطاع غزة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، مستوى غير مسبوق لم تخفّ فيه العمليات العسكرية منذ ثمانية أشهر، من دون تحقيق أي هدفٍ إستراتيجي إسرائيلي، ومع إيجادٍ حال من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
وفي حين تظل غزة محور اهتمام كبير، هناك جبهة أخرى ساخنة في شكل مضطرد بين إسرائيل و«حزب الله» يَخشى العالم تطورها إلى مستوى تخرج فيه عن السيطرة. وقد انخرط الطرفان بتبادل يومي للهجمات الصاروخية وإطلاق الطائرات من دون طيار وحرائق اشتعلت في جانبي الحدود وفي الأماكن المفتوحة والسكنية والمزارع والأحراج ما أدى إلى دمار شديد بسبب الأعمال العدوانية المتبادلة.
وتُهدد إسرائيل بتوسيع عملياتها العسكرية في لبنان وباحتمال نشوب صراع أوسع وأكثر تدميراً، وهي تملك القدرة لذلك، من دون أن يكون في وسعها تحقيق أي هدف يتمثل بإلحاق الهزيمة بـ «حزب الله» أو إبعاده عن الحدود اللبنانية أو تقليص قدراته العسكرية.
وتدرك تل أبيب قوة «حزب الله» التي تعاظمت على مدى سنوات طويلة. وتالياً فهي تخشى ان تَخرج بصورةٍ تُفْقِدُها هيبتَها للأبد، بما يدفع سكان إسرائيل للهجرة من جديد عائدين إلى الدول التي أتوا منها لاحتلال فلسطين.
من هنا يُطرح سؤال: هل اندلاع الحرب التي تدور في مخيّلة وعلى لسان القادة العسكريين الاسرائيليين واقعيّ وقابِلٌ للتطبيق على أرض المعركة؟
يتسم الوضع على طول الحدود اللبنانية - الاسرائيلية باشتباكات مكثّفة ومتكررة يومياً. فقد أطلق «حزب الله» منذ الثامن من اكتوبر، عملية الإسناد والدعم لغزة منخرطاً بحرب محدودة ضمن حدود جغرافية وَضَعَها والتزمت بها إسرائيل في شكلٍ كبير، من دون ان يحول ذلك دون خروق قليلة متكررة.
وهذا ما دفع المجتمع الغربي الموالي لإسرائيل للاندفاع إلى زيارة لبنان للترهيب والترغيب من دون ان تؤدي هذه التهديدات ولا الإغراءات إلى ثني «حزب الله» عن موقفه: وقف الحرب على الحدود اللبنانية مرتبط بوقف جرائم إسرائيل وحصارها لغزة، ولا مفاوضات تثني عن هذا الهدف.
فـ «حزب الله» يعتمد على قوة هائلة يملكها ما يجعله خصماً أقوى بكثير من «حماس» التي كانت تُعدّ الخصم الرئيسي لإسرائيل.
فوحشية الحرب التي قادتْها إسرائيل عام 2006 على لبنان لقّنت الحزب درساً لن ينساه بأن عليه أن يجهز نفسه بأكبر كمية من الأسلحة المدمِّرة الدقيقة واستيرادها وصناعتها، وامتلاك معلومات استخباراتية عن القدرات الإسرائيلية العسكرية وانتشارها على كامل خريطة فلسطين من خلال صور أقمار اصطناعية صديقة، وتوسيع جبهة الحرب لتمتدّ إلى سورية في حال نشوب الحرب المقبلة.
وهكذا أصبح «حزب الله» يصنع الأسلحة والصواريخ في لبنان وسورية، ويجهّز نفسه عن طريق تسلُّم أكثر الصواريخ دقة وتدميراً من إيران، ويعدّل الصواريخ ويطوّرها بدقة لتتناسب مع الرسائل المدمّرة التي يريد توجيهها ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية بهدف ثني إسرائيل عن فكرة الحرب الكبرى على لبنان مستقبلاً.
ويملك الحزب صواريخ مدمرة تحمل رؤوساً تدميرية تبدأ من 7 كيلوغرامات إلى 2000 كيلوغرام من المتفجرات وتصل إلى المسافة التي تغطي كامل مساحة فلسطين.
وقد استخلص «حزب الله» العِبَر من ضربة إيران بالمسيَّرات والصواريخ لإسرائيل بعد تدميرها القنصلية الإيرانية في سورية، وبينها أن الصواريخ البالستية يصعب على «القبة الحديد» و«مقلاع داوود» وجميع أنظمة الدفاع الإسرائيلية والأميركية والفرنسية والبريطانية (جميع هؤلاء شاركوا بالدفاع عن إسرائيل9، إسقاطها.
ولكن الضربة الإيرانية أُطلقت من مسافة تزيد على 1600 كيلومتر ما أعطى إسرائيل وحلفاءها الوقت للتصدي لها مع علمهم بأنها «على الطريق». وهذا ما لن يفعله «حزب الله» الذي سيفاجئ إسرائيل بتنوُّع صواريخه ومسيّراته (التي تستطيع حمل رؤوس متفجرة من 5 كيلوغرامات إلى 500 كيلوغرام) التي ستنطلق من مسافة حدودية، وهو يملك خيارات واسعة بين مئات الثكن العسكرية وبنك أهداف غنيّ لدرجة انه «يتسلّى» بضرب صواريخ «القبة الحديد» المنتشرة على الحدود وداخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل لإعماء منظوماتها الدفاعية وضرْب راداراتها وغرف عملياتها وأجهزة الإنذار كرسائل باتجاهات عدة بأن الحرب معه ليست فقط باهظة الثمن ولكن إسرائيل لن تستطيع اعتراض أكثر ضرباته، وان قدراته الاستخباراتية كبيرة جداً.
هذا عدا عن «باقة» متنوعة من الصواريخ المجنّحة والأخرى سطح - سطح التي تستطيع تدمير المرافئ والمطارات ومنصات النفط والغاز وإغلاق البحر المتوسط ليعزل إسرائيل كلياً عن التجارة العالمية.
ومن الطبيعي ان يترك «حزب الله»، في حال الحرب، مطاراً إسرائيلياً دون التعرّض له، ليسمح للإسرائيليين بالمغادرة. ولن يبقى لإسرائيل اقتصاد أو مكان آمن، مثلما سيحدث للبنان أيضاً الذي اعتاد على دمار الحروب على عكس إسرائيل، نظراً لامتلاكها التفوق الجوي الذي تعادله القدرات الصاروخية لـ«حزب الله» والصواريخ المدمّرة.
ولكن السؤال: هل ستدع أميركا الحكومة الإسرائيلية تتخذ قرار الحرب مع لبنان، وهل تفعل تل أبيب ذلك من دون التأكد من أن واشنطن ستمدها بالذخائر اللازمة؟
وما سيكون تأثير أي حرب مقبلة مع لبنان على الانتخابات الأميركية، خصوصاً إذا شاركت المقاومة العراقية - وهذا مؤكد - في الحرب وبدأت معركتها بقوةٍ لا تقلّ عن قوة «حزب الله» ضد الثكن والمواقع العسكرية الأميركية لتبدأ الأكياس السود بالتدفّق نحو أميركا في خضم حملة انتخابية رئاسية؟
لا شك في أن «حزب الله» مترسخ في المجتمع اللبناني ما يجعل مستحيلاً عزله والقضاء عليه أو فرْض ابتعاده عن الحدود التي يقطن فيها عشرات الآلاف من أفراد الحزب العسكريين والمدنيين، علماً أن الجنوب اللبناني والبقاع الغربي يشكلان خزان الحزب الرئيسي الحامي والداعم له في بيئته الحاضنة.
ومما لا شك فيه أيضاً ان «حزب الله» رسّخ نفسه في سورية التي ستفتح حدودها للحرب لأن الرئيس بشار الأسد لا يتحمّل إمكان تدمير الحزب الذي يساهم بحماية حدود الجيش السوري مع المناطق المحتلة شمالاً والذي أقسم على الدفاع عن سورية منذ عام 2013، تاريخ دخوله بقوةٍ في الحرب السورية.
وتوفّر الجبهة السورية عمقاً إستراتيجياً إضافياً بحيث يستطيع «حزب الله» ان يشن هجماته على إسرائيل بدءاً من سلسلة الجبال الشرقية وحتى الجولان المحتلّ.
وعلى الرغم من القدرات العسكرية الإسرائيلية، إلا ان تحقيق أي نصر حاسم على «حزب الله» تحدٍّ غير وارد. فتكتيكات الحزب فوق وتحت الأرض التي بناها على مر الأعوام تصعّب على أي قوات تقليدية تحقيق انتصارات عليه.
هذا عدا عن التداعيات الاقتصادية العالمية واضطرابات أسعار النفط وتَفاقُم التحديات الاقتصادية التي سيواجهها العالم خصوصاً إذا شاركت إيران فقط بفلترة مضيق هرمز ومَن يمر فيه (19 في المئة من الاقتصاد العالمي) عدا عن البحر الأحمر وجميع المحيطات التي تستطيع إيران وحلفاؤها السيطرة عليها، من دون الحاجة للتدخل في الحرب مباشرة.
وهذا ما يدلّ على أن الحرب الشاملة الإسرائيلية - اللبنانية غير مطروحة على الطاولة ولا توجد إلا في مخيلة القادة الإسرائيليين، عدا عن أولئك الذين لا يملكون أي خبرة عسكرية وينادون بها فقط لتعزيز أصوات أحزابهم الداخلية المتطرّفة.