في اعتقاد كثيرين، ستكون لمقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في حادث تحطم طائرة هليكوبتر مع مسؤولين آخرين بينهم وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، انعكاسات على الوضع الداخلي الإيراني. يعود ذلك قبل كلّ شيء إلى أن رئيسي رمز من رموز سيطرة «الحرس الثوري» على مفاصل الدولة الإيرانيّة.

يأتي غياب رئيسي في مرحلة انتقاليّة تمر فيها «الجمهوريّة الإسلاميّة» في ضوء تقدّم «المرشد» علي خامنئي في السنّ من جهة والصراعات الدائرة في شأن خلافته من جهة أخرى.

لا يمكن تجاهل أنّ رئيسي كان بين الأسماء المطروحة لتولي موقع «المرشد» مستقبلاً. كذلك، لا يمكن تجاهل أن الحدث الكبير جاء في سياق تطورات كبيرة في المنطقة انطلقت من حرب غزة التي دخلت فيها إيران على طريقتها.

ليس سرّاً أنّ الرئيس الإيراني الذي يشغل موقعه منذ العام 2021 ما كان ليفوز في الانتخابات الرئاسيّة بسهولة، صيف العام 2021 لولا أنّه يمثل «الحرس الثوري»... ولولا تاريخه المعروف بصفة كونه أحد أبرز الذين لعبوا دوراً في تصفية المعارضين في مرحلة معيّنة.

حصل ذلك عن طريق استخدام القضاء، الذي كان جزءاً منه، في عملية التصفية هذه التي شملت الآلاف في العام 1988.

قدّم رئيسي أوراق اعتماده إلى الجناح المتشدّد في النظام باكراً. في 1985، تولى منصب نائب المدعي العام للعاصمة طهران وهو المنصب الذي مهّد له السبيل لعضوية «لجنة الموت» عام 1988.

وضمت «لجنة الموت» التي نظرت في محاكمات سريّة انعقدت في العام 1988، ثلاثة قضاة آخرين إلى جانب رئيسي. ليس معروفاً على وجه الدقة عدد أولئك الذين أُعدموا في تلك المحاكمات، لكن جماعات حقوقية تشير إلى خمسة آلاف من الرجال والنساء دفنوا في مقابر جماعية لا شواهد لها في ما يعتبر جريمة في حقّ الإنسانية.

اللافت أنّ كبار المسؤولين في «الجمهورية الإسلامية» لا ينفون وقوع إعدامات، لكنهم يمتنعون عن مناقشة تفاصيل تلك الأحكام ومدى قانونيتها.

أمّا رئيسي نفسه، فقد أصرّ على إنكار أي دور له في أحكام الإعدام، لكنه دافع عنها في الوقت نفسه، قائلاً إنها جاءت بعد فتوى أصدرها «المرشد الأعلى» وقتذاك آية الله الخميني. بسبب دوره المفترض في تلك المرحلة، لقب بعض النشطاء رئيسي بـ«سفاح طهران».

كان لا بدّ من إيراد هذه النبذة القصيرة عن إبراهيم رئيسي في محاولة لفهم دوره في داخل النظام الإيراني الذي انتقل منذ سنوات عدّة إلى مزيد من التشدّد. يشير إلى ذلك إبعاد محمد جواد ظريف، عن وزارة الخارجية وحلول أمير عبداللهيان، مكانه.

جاء مقتل الرئيس الإيراني في ظلّ صراعات داخليّة من جهة وتعقيدات إقليميّة من جهة أخرى. يسمح ذلك بالتساؤل هل من علاقة بين الزيارة التي قام بها للمنطقة الحدودية مع أذربيجان لافتتاح سد أُقيم في تلك المنطقة ومن أجل عقد لقاء مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.

لا يمكن في طبيعة الحال تجاهل العلاقة الوثيقة القائمة بين أذربيجان وإسرائيل على كل المستويات. الوجود الأمني الإسرائيلي قوي في أذربيجان.

لا تتجرأ إيران على التحرش بأذربيجان لأسباب مختلفة، من بينها الوجود الآذري القوي في إيران. خامنئي نفسه من أصول آذرية. واضح أنّه في حال حصل أي تحرّش، تسارع «الجمهوريّة الإسلاميّة» إلى لملمة الأمور تفادياً لأي مضاعفات.

هل يدخل مقتل رئيسي ومن معه في سياق حرب غزّة وذيولها وتشعباتها؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكنّ الأكيد أن الغرب عموماً الذي شهد كيف شنت «الجمهوريّة الإسلاميّة» حروباً خاصة بها على هامش حرب غزّة بدأ يعي خطورة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة.

بدأ الغرب يستوعب معنى وجود ميليشيات إيرانيّة في اليمن ولبنان وسورية والعراق ومعنى تحكم إيران بالملاحة في البحر الأحمر، عبر الحوثيين، ومعنى قدرتها على فتح جبهة جنوب لبنان، بفضل «حزب الله»، ساعة تشاء.

تبقى بعض الملاحظات التي يبدو مفيداً إيرادها على هامش مقتل الرئيس الإيراني. أولى تلك الملاحظات لماذا هذا الإصرار على التنقل في طائرة هليكوبتر أميركيّة من طراز «بل» بدأ إنتاجها في العام 1967 وتوقّف في 1980؟ هل يعكس ذلك ثقة إيرانيّة بكلّ ما هو أميركي؟

أكثر من ذلك، ما هذه التكنولوجيا الحديثة التي تمتلكها إيران التي اضطرت إلى الاستعانة بتركيا ودول أخرى من أجل تحديد الموقع الذي سقطت فيه الطائرة الرئاسيّة؟

يكشف مقتل رئيسي، بالطريقة التي قتل بها، رفض إيران أن تكون دولة طبيعية تمتلك تكنولوجيا أميركيّة حديثة. هناك نظام نشأ في العام 1979 يقوم على فكرة «تصدير الثورة»، بمعنى أنّه نظام في هروب دائم إلى تصدير مشاكله إلى خارج أراضيه من دون أي اعتبار لمصالح الشعوب العربيّة أو الأكراد كما الحال في العراق على سبيل المثال وليس الحصر.

الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الإدارات الأميركيّة المتلاحقة غضت الطرف عن السلوك الإيراني في المنطقة. ثمّة منطق لا علاقة له بالمنطق اتبعته أميركا في تعاطيها مع إيران منذ احتجاز ديبلوماسيي سفارتها في طهران طوال 444 يوماً ابتداء من نوفمبر 1979... وصولاً إلى المفاوضات غير المباشرة الدائرة حالياً بين واشنطن وطهران في مسقط.

لا يمكن في طبيعة الحال اتهام الولايات المتحدة بأي شكل بالتورط في إسقاط طائرة رئيسي. قد يكون الأمر مجرد حادث كما قد يكون عملية مدروسة تستهدف توجيه رسالة واضحة إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة» التي ذهبت إلى حد إطلاق صواريخ ومسيّرات في اتجاه إسرائيل.

وحدها الأيام ستكشف أمرين. أولهما هل من تغيير في العمق في السياسة الأميركية تجاه إيران وثانيهما مدى تأثير مقتل رئيسي على الوضع الداخلي الإيراني ومعنى ذلك. سيكون لمقتل رئيسي تأثير. ليس معروفاً إلى أي حد سيكون ذلك!