عندما كتب فرانسيس فوكوياما، كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، كان يُبشّر العالم بنهاية الأيدويولوجيات حين انتصرت الليبرالية الأميركية على الشيوعية السوفياتية وغدا الطريق معبداً أمامها لتنقذ العالم من براثن مآسي الدكتاتورية وليبدأ عصر جديد سعيد للبشرية.

عصر الليبرالية الديموقراطية الذي كان يبشرنا به فوكوياما هو زمن يفترض أن يكون جديداً لا دكتاتورية فيه ولا اقتصاد شيوعياً له محل به، وستعم الحريات السياسية والمجتمعية والاقتصادية وسيتمتع بنعمها الشعوب والدول من خلال علاقات دولية تعاونية سلمية، حيث سيكون القانون الدولي مرجعية ضبط للسلوك الأممي في نظام عالمي تُحترم فيه القيم والأعراف والمعاهدات والمواثيق.

بعدما شاهد فوكوياما، بأن الليبرالية الأميركية قد استغلت الفراغ السياسي العالمي لقوة توازنها شنت حروباً في دول كثيرة مثل افغانستان والعراق، وتفشت معها مظاهر الجشع الاقتصادي حيث زاد الفقر وتصاعدت وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان، تراجع عن وجهة نظره ووضع كتاباً آخر في عام 2006 بعنوان «اميركا على مفترق الطرق: الديموقراطية، السلطة وميراث المحافظين». حاول في هذا الكتاب أن يقرن بين الديموقراطية ووجود سلطة قوية تحقق سيادة القانون والعدالة من خلال مؤسسات مهنية قادرة على تنفيذ تجاور محيط وضغوطات الأحزاب وجماعات الضغط النفعية سواء كانت تجارية أو سياسية. وقد وجّه في كتابه هذا نقداً لاذعاً للنظام السياسي الأميركي حيث أكد على فساد نفوذ المؤسسات واللوبيات الخاصة التي توجه قيادة الولايات المتحدة إلى مصالحها على حساب أهداف الليبرالية الديموقراطية العالمية كما يجب أن تكون في كتابه الأول. ركز فوكوياما، على إرث المحافظين المختلط بالتعصب ولكنه لم يجرؤ على المضي أبعد من ذلك ليمتد بنقده إلى السبب الحقيقي الذي دمر الليبرالية الديموقراطية الأميركية والمتمثل بـ«الصهيونية» التي أطّرت التفسيرات كافة للسلوك الليبرالي في قيد مصلحتها وطموحاتها وسياسة الكيان الصهيوني.

على الرغم من إدراك أغلب المختصين بأن قوة ونفوذ اللوبي الصهيوني هو الفاعل الذي يوجه سياسة الولايات المتحدة لكن ذلك كان يُمكن تغليفه بضرورات مصالح السياسة الخارجية العليا لأميركا! لكن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني في غزة قد كشفت القناع الصهيوني حيث ظهر الوجه البشع الذي يقمع كل رأي معارض لسياسة نتنياهو الاجرامي.

لم يكتف اللوبي الصهيوني بقمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأميركية التي من المفترض أن تُشكل أحد أوجه الممارسة الديموقراطية المعتادة في المجتمع الأميركي كغيرها من مظاهرات عمالية أو مهنية أو حتى مظاهرات المثليين الذين دافعت عنهم الإدارة الأميركية بأسنانها، لم يكتف هذا اللوبي بذلك بل استغل القوة السياسية للولايات المتحدة لتهديد أعضاء محكمة العدل الدولية في حال إدانتهم لجرائم الكيان الصهيوني! لقد فعلت ذلك واشنطن من قبل أيضاً من خلال الفيتو في مجلس الأمن، وقبله في تشريع قانون حماية الموظفين الرسميين ضد أي إجراء ممكن ان تتخذه المحكمة الجنائية الدولية إزاء أي مسؤول أميركي... من هنا يمكن القول بأن التاريخ لم ينته وانما الذي انتهى فعلياً هو القانون الدولي.

بتاريخ 23 اكتوبر الماضي أي بعد اسبوعين تقريباً من السابع من اكتوبر، كتب فرانسيس فوكوياما، في إحدى الصحف الأميركية «American Purpose» مقالاً تحت عنوان: «The Missing Context» السياق الضائع، ينتقد به ما قامت به حماس من جريمة ضد الأبرياء حيث وصف ذلك بالإرهاب، لكنه على خجل انتهى إلى القول بأنه ومع زيادة العمليات العسكرية الإسرائيلية ستزداد الخسائر لدى الطرفين ويتصاعد معها التعاطف مع الفلسطينيين كما كان ذلك مع إسرائيل مع بداية عملية حماس لأن الناس ينسون السياق التاريخي الذي أدى إلى هذا الصراع!

بين السطور تستطيع ان تقرأ ما يعنيه فوكوياما وهو أن ما دفع حماس للقيام بما فعلته في السابع من أكتوبر ليس منقطعاً عن سياق الصراع التاريخي دون أن يذكر فظائع الجرائم الصهيونية طوال سبعين عاماً من تشريد واحتلال وقتل وقهر وقد اكتفى بالإشارة الصريحة لما سماه بالارهاب الفلسطيني! استطاع فوكوياما أن يدين بوضوح حماس ولكنه تغطى بكلمة «سياق» Context لكي يلمّح بخجل ووجل بما قامت به الصهيونية فيما قبل السابع من أكتوبر وما بعده، وهذا ما يؤكد بأنه واقع تحت تأثير عقدة الخوف أو مسكرات التعاطف حيث امتنع من قول الحقيقة، وهذا ما يؤكد بانه بالفعل غير مقتنع بالليبرالية الديموقراطية أكثر مما هو متأثر بالليبرالية التي تخدم الصهيونية!

أنا شبه متأكد بأن «يوشيهيرو» فرانسيس فوكوياما، لو انطلق من أصل تراث اسمه الأول لوصف الحال بأنه يُجسّد نهاية التاريخ وبداية الصهيونية العالمية... حرب الإبادة حتى الإنسان الأخير.