سببان على الأقلّ يحولان دون توقف حرب غزّة في المدى القريب. أوّلهما الوضع الداخلي الإسرائيلي في ضوء الضربة التي تلقتها الدولة العبريّة يوم السابع من أكتوبر 2023 إثر هجوم «طوفان الأقصى» الذي شنته «حماس».
للمرّة الأولى منذ «حرب تشرين» أو «حرب أكتوبر» 1973، تتعرّض قوة الردع الإسرائيليّة لهزة في العمق. من دون قوّة الردع لا وجود لإسرائيل نفسها. لا خيار آخر أمام إسرائيل غير استعادة قوة الردع. لذلك ستستمر الحرب بطريقة أو بأخرى في وقت ربط بنيامين نتنياهو مستقبله السياسي بمتابعة الحرب التي قضت عملياً على غزّة وأهل غزّة...
أمّا السبب الآخر الذي يجعل وقف الحرب صعباً في الوقت الحاضر، فيعود إلى غياب المشروع السياسي لدى أيّ من الطرفين الرئيسيين المعنيين بالحرب. إن لدى «حماس» وإن لدى إسرائيل. تبدو السياسة غائبة، علما أنّ هناك توجهاً أميركياً وأوروبياً وعربيّاً إلى الضغط في اتجاه التوصل إلى وقف لإطلاق النار يسمح بالتفكير في مستقبل القطاع، أي في ما بعد حرب غزّة. طرح موضوع خيار الدولتين منذ بداية حرب غزّة. يطرح حالياً هذا الخيار في إطار تسوية إقليميّة شاملة فيما السؤال الأساسي: من سيكون إلى طاولة المفاوضات لدى البحث في مثل هذه التسويّة وأين موقع إيران إلى طاولة المفاوضات هذه؟ لا وجود لمشروع سياسي إسرائيلي ما دام «بيبي» نتنياهو في السلطة وما دام عليه الاتكال على وزراء من طينة إيتمار بن غفير، وبتسئيل سموتريتش، كي تبقى حكومته حيّة ترزق. أكثر من ذلك، يستغلّ اليمين الإسرائيلي حرب غزّة لتحقيق حلم مستحيل يتمثّل في تصفية القضيّة الفلسطينيّة متجاهلاً وجود شعب فلسطيني على أرض فلسطين، بما في ذلك مليونا فلسطيني في إسرائيل نفسها، أي إسرائيل ما قبل حرب 1967.
مثلما يبدو حلم اليمين الإسرائيلي مستحيلاً، كذلك يبدو حلم «حماس» لما بعد حرب غزّة. سهلت «حماس»، شئنا أم أبينا، عمليّة التدمير الممنهجة لغزّة. إنّها عمليّة ينفذها الوحش الإسرائيلي باتقان في ضوء عثوره على المبرّر. تريد «حماس» العودة حالياً إلى حكم غزّة عبر استعادة «الإمارة الإسلاميّة» التي أقامتها في القطاع منذ استيلائها عليه منتصف العام 2007. إلى أي غزّة ستعود «حماس»؟ هل بقي شيء من القطاع كي تعود إليه وتتصرّف كأن شيئاً لا يمكن وأنّ مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى» حادث سير عابر بأضرار محدودة يمكن إصلاحها بسهولة والعودة إلى ما كانت الأمور عليه قبل السابع من أكتوبر الماضي. لا وجود لمنطق حمساوي من أي نوع. لا إدراك لغياب أي طرف إقليمي أو دولي على استعداد لإعادة إعمار غزّة في يوم من الأيّام في حال وجود «حماس» وسلاحها.
في حرب خريف 1973، كان لدى كلّ من الشريكين العربيين في تلك الحرب، أي أنور السادات وحافظ الأسد أجندته. سعى السادات إلى استعادة سيناء والأراضي المصريّة المحتلة إسرائيلياً منذ العام 1967. كان يعرف الثمن الذي عليه دفعه. لذلك ذهب إلى القدس والقى خطاباً في الكنيست الإسرائيليّة تحدّث فيه عن «السلام العادل» و«ليس سلام المغلوب على أمره». لذلك أيضاً وقع معاهدة سلام مع إسرائيل في مارس 1979 بعدما ضمن استعادة سيناء وحقول النفط والغاز فيها. في الوقت ذاته، كان الأسد الأب يبحث عن هدف من نوع آخر يتمثل في توفير شرعيّة عربيّة للنظام الأقلّوي الذي أقامه في سورية. لم يكن يسعى عملياً إلى استعادة هضبة الجولان المحتلّة بمقدار ما كان يسعى إلى تقوية نظامه وتعزيز دوره الإقليمي عن طريق الإعداد للدخول إلى لبنان مستخدماً الوجود الفلسطيني المسلّح فيه، وهو وجود عمل على بسطه منذ ما قبل استحواذه على كلّ السلطة في سورية في 16 نوفمبر 1970.
في غياب المشروع السياسي لمرحلة ما بعد حرب غزّة، يبدو مهمّا التعجيل في وقف الحرب. هذا ما يفسّر التوتر المستجد على صعيد العلاقات الأميركيّة – الإسرائيليّة. ليست الحاجة إلى وقف للحرب فحسب، بل الحاجة أيضاً إلى مشروع سياسي لما بعد الحرب التي تمتلك «الجمهوريّة الإسلاميّة» مفاتيح توسيعها، خصوصاً عبر جبهة جنوب لبنان أو عبر عرقلة الملاحة في البحر الأحمر بواسطة الحوثيين في اليمن.
كان لافتاً غياب أي تصعيد مباشر بين إيران وإسرائيل بعدما اغتالت الدولة العبريّة مسؤولي ملفات المنطقة في «فيلق القدس» في اثناء اجتماعهم في القنصليّة الإيرانيّة في دمشق يوم الأول من أبريل الماضي. ردّت «الجمهوريّة الإسلاميّة» بطريقة كان الواضح فيها أنّها تريد طمأنة الداخل الإيراني من جهة والتأكيد لأدواتها في المنطقة أنّها تمتلك القدرة على ضرب إسرائيل من جهة أخرى. اللافت أكثر الآن متابعة إسرائيل حربها على أدوات إيران في المنطقة من دون ردّ فعل مباشر من طهران.
ثمّة حرب تبحث عن مشروع سياسي. كيف سيتبلور هذا المشروع في وقت ليس ما يشير إلى أن إسرائيل قادرة على الذهاب بعيداً في تنفيذ اجتياح رفح من دون التقيّد ببعض الشروط الأميركيّة التي تراعي الحدّ الأدنى من المواصفات الإنسانيّة، أقلّه ظاهراً. ينقص المشروع السياسي لما بعد حرب غزّة إسرائيل أخرى مختلفة بعيداً عن فكر «بيبي» نتنياهو وحلفائه الحالمين بالتخلص من الشعب الفلسطيني. مشروع لا علاقة له بـ«حماس» وشعاراتها المضحكة المبكيّة... ولا بالسلطة الوطنيّة المترهلة بتركيبتها الحالية...
من سيشارك في صياغة هذه المشروع السياسي للمنطقة؟ من سيفاوض في شأنه؟ أين موقع «الجمهوريّة الإسلاميّة» الإيرانيّة التي تريد رفع العقوبات المفروضة عليها، خصوصاً العقوبات الأميركيّة، والتي تؤكد يومياً مدى سيطرتها على العراق، بميليشياته المذهبيّة، وعلى جزء من سورية وعلى كلّ لبنان وشمال اليمن؟ هذه بعض أسئلة مرحلة ما بعد غزّة المرشّحة لأن تطول أيّاماً، بل أسابيع أخرى!