بسبب الخصوصية الفريدة بين واشنطن وتل أبيب، حيث الدعم المطلق غير المشروط من جانب الأولى للثانية منذ نشأة إسرائيل في المنطقة، ذهب البعض في القول إن القرار الأميركي يصنع في تل أبيب وليس في واشنطن. وبالقطع ليس الأمر على هذا النحو بالضبط، لكن فعلياً هناك سطوة كبيرة لتل أبيب على القرار الأميركي في ما يتعلق بمصالحها وأمنها، وتلك السطوة تتجسد في تحالف سياسي وإعلامي ومالي وديني لإسرائيل واسع النطاق شديد القوة في الولايات المتحدة.

وانطلاقاً من هذا الواقع -الشديد الصلابة والرسوخ لأجل غير مسمى- فالتزام واشنطن التقليدي بالدعم المطلق لإسرائيل خصوصاً الدفاع عنها لن يصيبه أي تغيير جوهري على الإطلاق. ومن ثم أيضاً، فبروز أي خلافات على السطح بين الدولتين -كما يحدث الآن- لا يعكس في واقع الأمر ثمة خلاف حقيقي أو جوهري بين الحليفين، أو يؤشر لنفور واسع في العلاقات، أو ما شابه، بل يمكن اعتباره فقط خلافاً في الرؤى والأولويات بين الصديقين الحميمين.

ومنذ انطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، تشهد العلاقات بين الصديقين هذا الخلاف في الرؤى حول إدارة ونطاق العمليات في غزة، وليس خلافاً حول الأهداف الرئيسية التي أعلنتها إسرائيل منذ انطلاق العمليات. واشتد هذا الخلاف بقوة مع إعلان تل أبيب عن عزمها اجتياح رفح، ووصلت حدة هذا الخلاف، بإعلان إدارة بايدن -في سابقة هي الأولى من نوعها- عن وقف شحنة قنابل لإسرائيل بزعم ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب في غزة بواسطة أسلحة أميركية، ويعد ذلك انتهاكاً لقانون «ليهي» الأميركي الذي يحرم تصدير أسلحة لدولة تنتهك قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. لكن اللافت أيضاً هو تأكيد إدارة بايدن على الدعم المطلق لإسرائيل مع وقف شحنة القنابل.

رفح وحدود الخلاف

يتبدى من المواقف المتعددة والمتباينة لإدارة بايدن منذ عزم تل أبيب اجتياح رفح، رغبة أميركية صادقة في إثناء تل أبيب عن هذه الخطوة الخطيرة، لكنها تحت وطأة ضغوط حكومة تل أبيب المتطرفة، وافقت على مضض على الاجتياح شريطة توفير خطة لحماية المدنيين. وبعد رفض تل أبيب مقترحات «حماس» النهائية بتبادل الأسرى على دفعات ووقف إطلاق النار والتي وافقت عليها بدعم وساطة أميركية - مصرية - قطرية. أعلنت تل أبيب رفضها لمقترحات «حماس» -وهذا كان متوقعاً- لأن خطة تل أبيب الأساسية ليس الإفراج عن الأسرى بل القضاء على هيمنة «حماس» تماماً في القطاع، وتنصيب حكومة عملية لتل أبيب لحكم القطاع، مع استدامة الهيمنة العسكرية النوعية لتل أبيب في القطاع. وعلى إثر ذلك أعلنت إدارة بايدن وقف شحنة القنابل لتل أبيب.

مبدئياً، يمكن اعتبار قرار وقف شحنة القنابل، تكتيكاً أميركياً ذكياً للضغط على «حماس» وإسرائيل معاً، ورفع الحرج عن إدارة بايدن إذا أقدمت إسرائيل على تكثيف عملياتها على رفح التي اقتحمتها بالفعل. لكن ذلك لا ينهي الخلاف بين تل أبيب وواشنطن حول رفح. فاجتياح رفح سيصيب العلاقات المصرية - الإسرائيلية بشرخ كبير، ناهيك عن آلاف الضحايا من المدنيين. وسيمثل كل ذلك، ضرراً وضغطاً وإحراجاً كبيراً لإدارة بايدن خاصة في ظل انشغالها بحملة انتخابية قوية.

وعلى إثر ذلك، يمكن القول، إن اجتياح رفح وتكثيف العمليات العسكرية فيها، سيؤدي بلا شك إلى هوة خلاف غير مسبوقة بين الحليفين، لكنه لن يؤدي إلى قطع العلاقات بينهما، وعدم التخلي بطبيعة الحال عن الدفاع عن إسرائيل. فواشنطن الآن في ورطة شديدة، لذا فمن المتوقع أن تدفع بكل قوتها خلال الأسابيع القليلة المقبلة للضغط على إسرائيل لقبول صفقة متوازنة مع «حماس»، أو أن تتخلى عن بعض شروطها المتعسفة لو بصورة موقتة. مع حث إسرائيل على ضبط النفس إلى أقصى درجة تجنباً لإثارة أزمة حادة مع مصر.

خلاصة الأمر، نجزم أن جميع الإدارات الأميركية خاصة إدارة بايدن قد أصبحت على يقين بات، أن إسرائيل قد أصبحت عبئاً شديداً، وربما أكبر عامل ضار للمصالح الأميركية وإستراتيجيتها الدولية الكبرى. إذ على الأقل، تدفع تصرفات تل أبيب الحمقاء واشنطن إلى إعادة التركيز في المنطقة مرة أخرى، والذي هو شديد الضرر على إستراتيجيتها الرئيسية في المحيط الهادئ لإضعاف الصين التي تنازعها على الهيمنة الدولية.

ومع ذلك، ليس في مقدور أحد الاعتراض أو تغيير هذه السياسة التقليدية تجاه إسرائيل بسبب السطوة الهائلة الراسخة الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة.