في الربع الأخير من سنة 1986 بمبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في منطقة العديلية، وتحديداً في القاعة الدراسية الكبرى رقم 112 وأنا شاب يافع في عامي الدراسي الأول للعلوم السياسية، متحمس رغم أننا كنا في فترة تعطيل للدستور وحل لمجلس الأمة، وتلبية لهذا الحماس الشبابي أحببت توجيه سؤال «صعب» لأستاذنا الكبير الراحل أ.د. كمال المنوفي،رحمه الله، عن إشكالية تؤرقني وتسبّب لي تصدعاً فكرياً وسياسياً... السؤال كان:

«كيف للأمير - جابر الأحمد، رحمه الله وطيّب ثراه، أن يعطل مواد في الدستور رغم أن الأمير يبايع حاكماً بموجب هذا الدستور نفسه؟ هل سُلطة الأمير الراحل كانت تعلو سُلطة الدستور؟».

صمتٌ أصاب القاعة للحظات، ووجدتُ أستاذنا - الذي ظننتُ أنه سيعجز عن الإجابة ويتوتّر ويرتبك، خصوصاً أننا في الشهور الأولى لحل المجلس وتعطيل مواد في الدستور - يقول لي بكل هدوء:

«اسمع يا ابني.. الكويت نظامها السياسي نظام أبوي.. والحاكم في النظام الأبوي هو أبو الشعب وأبو السلطات.. وسلطة الأب عموماً في الأنظمة الأبوية تعلو كل سلطة أخرى وتعلو كل قانون وكل دستور.. ولهذا من الطبيعي أن يتمكن الحاكم من مثل هذا القرار.. ومن الطبيعي أن تجد له دعماً وإسناداً شعبياً.. فالأمير هو المشروعية الأولى في نظام الحكم».

كانت إجابة واقعية وصريحة أنهت الجدل المحتدم داخل عقلي، وأوضحت لي الأمر بجلاء وأنا في ريعان الشباب من عامي الأول في الجامعة، فلم أقضِ عمري أطارد سراباً، وظلت هذه الحقيقة ماثلة أمامي أستحضرها في كل المطبات السياسية والتحامات السلطتين وصولاً إلى اليوم، فأتأكد دوماً أنها حقيقة ثابتة راسخة.. وأن الحاكم في الكويت قادر دوماً على اتخاذ قراره رغم أنه يميل إلى الصبر.. ولكن.. للصبر حدود، ويجب على السياسيين المحترفين في كل الأزمنة أن يعرفوا حدود هذا الصبر فلا يتجاوزونه.

السؤال الآن:

لماذا أحكي لكم اليوم هذه الحكاية القديمة التي مرّ عليها 38 عاماً؟

الإجابة:

أحكيها لكم حباً فيكم وحرصاً عليكم وعلى مستقبلكم، ومثلما نبّهني دكتوري الراحل إلى الواقعية في الحالة السياسية آنذاك وأنقذَ عقلي من العيش في تناقضات والركض وراء سراب، أحببتُ أن أنبهكم اليوم لعلّي أفيدكم..

«لا تكونوا وقوداً لأي معركة قادمة».

حفظ الله الكويت وأميرها وشعبها من كل مكروه.