إنه أمر واقعي، لا هو من الخيال ولا هو من جانب فلسفي، أن تكون للعطور ذاكرة مثلها مثل ذاكرة الإنسان التي تحتفظ في أدراجها بالكثير من الوجوه والمُدن والأحداث والأسماء والأسْفَار.

تمتلك العطور ذاكرة ممزوجة بالزمن والسيكولوجيا اللذين يحتويان على العديد من التفريعات المهمة في حياة الإنسان ككائن حي اجتماعي، مثل: علاقته بنفسه، وعلاقته بالناس، وعلاقته بالمُدن، وعلاقته بكل ما يعيشه من مشاعر وأحاسيس، وعلاقته بكل ما يلامسه ويخالطه ويقترب منه روحياً وجسدياً وفكرياً.

بكل سهولة ودون أي تعقيد أو أي صعوبة يستطيع العطر بلحظة رشيقة سحرية أن يثير ذاكرتنا ويوقظها من خَدَرِها لتعود بنا طاقتها الحِسية إلى الوراء، فننتبه ونسترجع تلك الوجوه والأسماء والأماكن والأحداث التي لها رابط وثيق بينها وبين العطر!

حاسة الشم جزء من منظومة جسد الإنسان، وجسد الإنسان جزء من منظومة الحياة، والحياة من مكوناتها الزمن والذاكرة والحدث، والعطر له نصيب من الزمن والذاكرة والحدث.

عَالم العطور حكاية طويلة، ليس فيها حدود، ولا يوجد فيها بطل، ولا تتبع المنطق ولا حتى تتبع الخيال!

قد يغلب العطر الذي بـ10 دنانير ذلك العطر الذي بـ100 دينار، وقد يغلب العطر الذي بـ5 دنانير ذلك العطر الذي بـ10 دنانير، هذا لأن الغلبة في عالم العطور تخضع للصدفة والحنكة والمفاجأة، لا لأسماء شركات العطور العملاقة.

في إحدى المرات شممت رائحة عطر جميل لفت انتباهي مع أحد زملاء العمل، فذكر لي اسم العطر، وذكر لي اسم الشركة منتجة العطر، وهي شركة صغيرة جداً في عالم العطور، وذكر لي أن قيمة ذلك العطر هي فقط 11 ديناراً.

وبعد أيام عدة ذهبت لتلك الشركة صاحبة ذلك العطر الذي ذكره لي زميلي، فَلم أجد لديها إلا 5 عطور فقط من إنتاجها، كان من ضمنها ذلك العطر المدهش الذي يبدو أنها أنتجته عن طريق الصدفة!

ولقد أهداني أحد الأصدقاء المثقفين في صلالة عطراً، استطاع بكل ثقة أن ينافس ويزاحم الكثير جداً من العطور التي عندي المعروفة عالمياً، وليس ذلك إلا لأن ذلك العطر من إنتاج شركة عطور محلية في صلالة، ولأن بيني وبين صلالة سنوات طويلة ممتدة من العشق والذكريات والوجوه والأماكن والأحداث التي تشبع بها ذلك العطر.

ذاكرة العطر، تشع على الفور عندما يخرج الرذاذ من رأس الزجاجة، فيدق في داخلنا جرس التنبيه الذي يوقظ فِينا أحاسيس حاول غُبار النسيان تغطيتها.