بدأت إسرائيل عملية «جباية الثمن» (أو دفْع الثمن) ضد «حزب الله» باستهداف الصف الوسطي فيه وليس فقط مَن يرمي الصواريخ، بل أيضاً مَن يُعطي الأوامر والاختصاصيين بهدف تدفيع الحزب ثمناً أكثر إيلاماً الجبهة اللبنانية.

إلا أن الحزب صعّد في المقابل، بضربه أهداف في العمق الإسرائيلي. فإلى أين تتجه الأمور بين الطرفين؟

تلتزم تل أبيب قواعد الاشتباك التي رسمها الحزب منذ أن بدأ بالمعركة يوم الثامن من أكتوبر، غداة عملية «طوفان الأقصى»، كجبهةِ إسنادٍ داعمة للمقاومة الفلسطينية وليس كجبهة حربٍ شاملة.

واقتصرتْ هذه الحرب على ضرب أهداف عسكرية من الطرفين مع تحييد المدنيين والبنية التحتية، عدا بعض الخسائر البشرية المدنية التي تُعتبر «أضراراً جانبية» وليست هدفاً مباشراً في الصراع العسكري بشكل عام.

وحرص «حزب الله» على إخفاء قدراتٍ عدة ومهمة قرّر عدم استخدامها إلا في حالات الحرب الشاملة. لكنه كشف عن مخزون هائل من الصواريخ الليزرية وصواريخ «بركان» والطائرات المسيَّرة وجزء صغير من أنواع الصواريخ المضادة للطائرات وفق متطلبات المعركة.

كذلك أظهر معرفةً دقيقةً بالانتشار الإسرائيلي الثابت والمُستحدَث عبر ضرْبه وتصويره المراكز العسكرية على كامل الجغرافيا المحتلة. ولا تقلّ دلالةً القدرات الإلكترونية المهمة التي ظَهَر أنه يملكها والتي كشفت مواقع جديدة للاستخبارات العسكرية ومراكز قوات الاستطلاع التي تمركزت في منازل المدنيين في المستوطنات التي أخلاها سكانها جراء الحرب التي يديرها الحزب على امتداد 100 كيلومتر طولي وبعمق 30 كيلومتراً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وفرضت إسرائيل معادلةً جديدة بقصفها البقاع مقابل استخدام الحزب للسلاح المضادّ للطائرات. إلا ان تل أبيب لجأت أخيراً لتطوير الحرب باستهدافها المهندسين والاختصاصيين الذين يعطون الأوامر ويعملون على تطوير الأهداف والأسلحة التي يتلقونها من إيران داخل الصناعة العسكرية التابعة للحزب والموجودة غالبيتها داخل آلاف الأمتار من الخنادق المنتشرة في مناطق مختلفة من الجغرافيا اللبنانية.

وتقول مصادر مطلعة، إن «إسرائيل بدأت بجمْع المعلومات عن أفراد وقادة الحزب بعد حرب 2006 في شكل أكثر دقة. ولمدة نحو 18 عاماً سخّرت التكنولوجيا المتقدّمة التي تملكها في مجال الذكاء الاصطناعي والاتصالات وجمْع المعلومات ومتابعة الأهداف ورصْدها على مدار الساعة، لترسم خريطةَ تحركِ كل هدف من خلال التجسس على الهواتف الخاصة للمقاتلين وكذلك هواتف عائلاتهم وأقربائهم وتحركاتهم وأماكن عملهم، لتكتمل الشبكة العنكبوتية عن كل فرد مهما كبرت أو صغرت مسؤوليته العسكرية».

وبعدما أظهر «حزب الله» قدراته التي تسبّبت بتهجير أكثر من 100 ألف مستوطن على طول الحدود، تأقلمت إسرائيل مع الواقع الجديد. إلا انها لم تتقبل استخدام الحزب للأسلحة المضادة للطائرات التي تسمح لها بتأكيد بنك الأهداف وتحديثها وجمْع المعلومات الاستخباراتية التي تحتاج إليها في حرب أوسع وأشمل عندما يحين الوقت.

فذهبت إسرائيل لضرب العمق اللبناني وأهداف من الصف الوسطي لتوسيع نطاق المعركة، فجابه «حزب الله» هذا التطور بقفزة نوعية نحو صفد وعكا ليرتقي نوعُ الاستهداف بهجومٍ مركّب بمسيَّرات إشغالية وانقضاضية وإطلاق العشرات من الصواريخ مقابل خرق إسرائيل للحدود الجغرافية.

ولا تقيس تل أبيب معركتها الجديدة بالخسائر البشرية بل بتمدّدها الجغرافي بحثاً عن أهداف محددة حتى ضد أهداف أصحابها «غير إجرائيين» بل اختصاصيين معنيين بالحرب المتطوّرة ضد إسرائيل.

وقد أقدم «حزب الله» على هذه القفزة النوعية في ضرب جغرافيا متقدّمة وبأسلحة مركّبة خصوصاً بعدما ضربت إيران اسرائيل بمئات الصواريخ والمسيّرات وخرقت المحرّمات السابقة وجميع الخطوط الحمر، وايضاً بعد مرور 200 يوم على حرب غزة من دون أن تحقق تل أبيب أهدافها وفي خضم تخبّطها الداخلي بين المعارضين للحرب والمطالبين بسقوط حكومة بنيامين نتنياهو وأهالي الأسرى الإسرائيليين المعتقلين لدى «حماس» والمقاومة.

قرّر «حزب الله» مواجهة «جباية الثمن» الإسرائيلية بتوسيع الجغرافيا ضدّ أهداف عسكرية من دون أن يخشى تمدُّد الحرب إذا سعت إسرائيل لذلك.

إلا أن من المؤكد أن الحزب لن يسمح لنتنياهو بتطوير الحرب ووضْع معادلة اشتباك جديدة من دون ان يدفع هو وجيشه ومستوطنوه الثمن الإضافي الذي يبدو أنه لن يستطيع تحمله.

وتبقى الحرب مسألةَ عض أصابع من دون ان تعطي إشارات بالتمدد والتوسّع خصوصاً في ضوء إخفاقاتٍ كثيرة لإسرائيل نتيجة سوء التقدير وجهل رد فعل العدو والذي ذهب ضحيته رئيس شعبة الاستخبارات اللواء أهارون حليفا لإخفاقه بتقدير قدرات الأعداء ونياتهم واستعداداتهم. وهذا ما من شأنه، مع عوامل أخرى عدة، منع الحرب من أن تتمدّد إلى كل لبنان.