(صاحب بالين كذّاب) مثل عامي منتشر بين الناس، ويأتي من ينكره، ويقول إن المراد من صاحب البالين الذكاء وليس بالكذب، وإن المثل يخص العباقرة، ولا يصح وصف أحدهم بالكذّاب، بل هو ذكي، وصاحب البالين أكثر الناس إنجازاً وتأثيراً في العالم...

ونقف هنا وقفة لمعرفة صاحب البالين، إن كان كذّاباً أو عبقرياً كما في نظر البعض!

العبقرية والذكاء عند مَن يملك أعمالاً عديدة، كمن يملك الفن ومهنة إدارية أو علمية، وهذه الثلاثة تحتاج تفرغاً ذهنياً مع تنظيم وتخصيص وقت لكل عمل منها، فلا يخلط الأعمال المختلفة في وقت واحد، وينشغل الذهن في أمور عديدة؛ فلا يحصل العطاء.

من أمثلة العباقرة العلّامة ابن سينا، فهو من أعظم الأطباء، ومن أكثر الناس معرفةً بالعلوم القرآنية والفيزياء والرياضيات والفلسفة فهو عالم موسوعي، وأغلب علماء المسلمين قديماً كانوا موسوعيين فلا يكتفون بعلم واحد ما دام العقل قادراً على الاستيعاب، ولا شك في تنظيم الأوقات للتعمق في كل تخصص والوصول إلى أعلى الدرجات.

وفي وقتنا المعاصر نجد الكثير من الأشخاص الناجحين في أعمالهم، كالطبيب الذي يتقن الرسم؛ فإنه يجلس مع المريض في جلسات خاصة ويركز معه في وصف حالته الطبية، وفي جلسات أخرى يخلو بها مع نفسه في رسم اللوحات الفنية؛ فإن يقوم بعملين في جلستين مختلفتين، وبالتالي هو ناجح وليس بكذّاب أو فاشل... بخلاف الطبيب الذي يحاور المريض، وفي الوقت نفسه يرسم لوحته وذهنه ينشغل بالاثنين فلن يركز ولن يحقق النجاح لا في اللوحة ولا في وصف العلاج! أو الأم التي تطبخ، وفي الوقت ذاته تدرس الأولاد! وبالتالي تفشل الطبخة ويسقط الأبناء!

تلك الجلسات أو الأحوال لا قيمة لها، وما هي إلا ضياع للوقت وتعطيل للآخرين، وهنا يوصف صاحب البالين بالفاشل ويدخل في مثل: (الكذّاب).

لا يستطيع الفرد التركيز في عملين في وقت واحد، ولن يصل إلى أي نتيجة إيجابية؛ لأنه قد شغل عقله «باله» في أمرين، يحتاج كل منهما إلى الاستماع والتركيز وشدة الإنصات حتى يحصل النجاح، لا شك أن الشخص هنا ينطبق عليه المثل الأصلي الذي وصفه بالكذاب... والفرق واضح بين الذكي والكذاب.

يقول الإمام الشعرواي، في خواطره حول آية: «مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» الأحزاب/4. الإنسان الذكي هو الذي لا يشغل باله بأمرين في وقت واحد، ولا يفكر في شيء وهو بصدد شيء آخر، فإذا كانت بُؤْرة الشعور خالية فالناس جميعاً سواسية في التقاط المعلومة؛ لذلك المدرس الموفّق هو الذي يستطيع أنْ يجتذب إليه انتباه التلاميذ، ولا يعطيهم الفرصة للانشغال بغير الدرس، وهذا لا يتأتى إلّا بالتلطُّف إليهم وإشراكهم في الدرس بالأسئلة من حين لآخر، ليظل التلميذ متوقعاً لأنْ يسأل فلا ينشغل، لذلك رأينا أن الطريقة الحوارية هي أنجح طرق التدريس، أما طريقة سَرْد المعلومات فهي تجعل المدرس في وادٍ والتلاميذ في وادٍ آخر، كل منهم يفكر في شيء يشغله...

المثل الأصلي يحمل المعنى الحقيقي بأنه كذاب لا صحة في أعماله، ولا يمكن قلب المعنى بأنه عبقري؛ فالمثل بعيد كل البعد عن العبقرية والذكاء.