تنكشف القضايا القانونية ضد جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ليدخل في متاهة قانونية معقّدة منذرةً بمعركة تدور رحاها ليس فقط في ميادين القطاع، بل أيضاً في قاعات المحاكم والنظام القانوني الدولي.
وتحسّباً لإصدار أوامر اعتقال لجنوده وضباطه، نظراً لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكَبة، يعمل الجيش الإسرائيلي على تعزيز قسم القانون الدولي التابع له برئاسة المقدم روني كاتسير تحضيراً للمعركة الكبرى الآتية.
وبمجرد أن تنتهي الحرب وتَفتح غزة أبوابها أمام الصحافة العالمية ومنظمات حقوق الإنسان، ستنهمر الدعاوى على إسرائيل ارتكازاً على الدمار والخسائر الهائلة في صفوف المدنيين والبنية التحتية، ما سيؤجج الأمم المتحدة والمؤسسات القانونية ضد تل أبيب.
وطوّرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي، تقريراً يشير إلى ان «هناك أسباباً معقولة وأدلة على أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية في غزة، وانها انتهكت ثلاثة أفعال محددة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإبادة الجماعية: قتل أعضاء المجموعة (الفلسطينيين)، التسبّب في أذى جسدي أو عقلي خطير وخلق ظروف محسومة عمداً لإحداث التدمير الجسدي للإبادة الجماعية».
ويشتمل تقريرها على التدمير الواسع في البنية التحتية والمستشفيات واعتقال وتعذيب الرجال والفتيان.
وبموجب القانون الدولي الإنساني، المعروف أيضاً بقوانين الحرب، هناك توازن دقيق بين الاعتبارات الإنسانية والضرورات العسكرية وضرورة التمييز بين المدنيين والمقاتلين.
إذ يحظر القانون الاستهداف المتعمّد للمدنيين والهجمات العشوائية التي لا تميّز بين أهداف عسكرية وغير عسكرية. كذلك يَمنع الهجمات التي تتسبّب في وقوع إصابات بين المدنيين والهجمات المفرطة من دون اتخاذ الاحتياطات لتقليل خسائر المدنيين والأضرار في البنية التحتية.
ويستمر القانون الدولي لحقوق الإنسان سارياً أثناء النزاعات المسلحة لمنع الخسائر التعسفية في الأرواح والتعذيب والمعاملة القاسية وتأكيداً على الحق في المحاكمة العادلة.
وكل هذه الأفعال المخالفة للقوانين الدولية أكد حصولها الجنود والضباط الإسرائيليون الذين نشروا مقاطع فيديو تدينهم على وسائل التواصل الاجتماعي، معتقدين أنهم فوق القانون والمحاسبة.
وتتجه الأنظار نحو أصل وأسباب الجرائم التي اتضح انها جاءت بناء على تعليمات كان أصدرها قائد الفرقة المدرعة 36 اللواء ديفيد بار مكتوبة بخط اليد ويدعو فيها إلى الانتقام من الفلسطينيين، ما يُشكّل خرقاً واضحاً للأخلاقيات التي يجب ان تحافظ عليها الجيوش أثناء الحرب.
وبمجرد معرفة القيادة الإسرائيلية بهذه التعليمات من دون اعتراض فوري أو اتخاذ إجراءات فورية تصحيحية من جانب هيئة الأركان العامة، فإن هذا يُشكّل تأييداً ضمنياً وفشلاً ذريعاً لآلية الرقابة لضمان امتثال جميع الأعمال العسكرية للقانون الدولي ومعايير الحرب.
وهذا يشير أيضاً إلى الثقافة الداخلية الإسرائيلية وغياب النزاهة الهيكلية القيادية.
وقد علق عالم الاجتماع والخبير العسكري الإسرائيلي ياجيل ليفي، واصفاً التسلسل القيادي في الجيش بأنه «مفكك»، وأن سلوك الجيش «يدل على مشاكل أعمق» مثل الافتقار إلى النجاح العسكري والأهداف الموضوعة وتجاهل الأوامر وثقافة الإفلات من العقاب التي تجلت بالدعوة إلى الإبادة الجماعية والنهب والتمثيل بالجثث وغيرها من السلوك اللاإنساني واللا أخلاقي. وهذا يشير بقوة إلى جيش يعاني من اضطراب داخلي حقيقي.
وبدأت إسرائيل تدرك أفعالها المشينة المحرمة، إذ صرّح وزير الدفاع يوآف غالانت أثناء زيارته لنظيره الأميركي لويد أوستن بان «إسرائيل تلتزم قوانين الحرب باستخدامها الأسلحة الأميركية»، وذلك لمواجهة التحديات القانونية الآتية التي تهدد إسرائيل وأميركا التي تمدّ هذا الكيان المجرم بالأسلحة والذخائر اللا محدودة.
ومما لا شك فيه ان إسرائيل تتحضر لفيضان من التحديات القانونية بمجرد قيام وسائل الإعلام الدولية وهيئات حقوق الإنسان بتقييم آثار الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، لأن حجم الدمار لا يُمكن تصوّره لتضمُّنه هدم عشرات الآلاف من المباني ومصادرة أراضٍ فلسطينية لإنشاء «منطقة عازلة» واستخدام الذخائر الحارقة ضد المباني السكنية ما يتناقض مع الموقف الدولي وأيضاً الأميركي الذي طالما برّر أفعال إسرائيل بـ «الدفاع عن النفس».
وما زاد من المعضلة القانونية التي تواجهها إسرائيل اتخاذ جنوب أفريقيا موقفاً «عزمت فيه على اعتقال أي جندي إسرائيلي قاتَلَ في غزة عند عودته».
كذلك بدأت الجماعات المؤيدة للفلسطينيين في أوروبا بتجميع ملفات عن جنود الجيش الإسرائيلي وهوياتهم وأفعالهم التي نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي ما يعقّد المشهد القانوني لإسرائيل.
مما لا شك فيه ان إسرائيل تجد نفسها على شفا معركة قانونية غير مسبوقة على الساحة الدولية. وهذه المواجهة التي تلوح في الأفق ليست مجرد استمرار للحرب الجسدية بوسائل أخرى، بل إنه صراع من أجل الشرعية والدفاع ضد الاتهامات التي لا لبس فيها والتي ستكون لها آثار بعيدة المدى على قيادتها العسكرية والسياسية.