لم يؤد انتقال العدسات إلى الحرب الروسية على أوكرانيا بعدما تحوّل حفل الروك في كروكوس سيتي هول «وليمة دم» وسارعت موسكو إلى اتهام كييف، إلى حرف الأنظار عن الحرب الأكثر اشتعالاً في الشرق الأوسط بعدما تمدّد طوفان النار في غزة إلى جنوب لبنان والبحر الأحمر وبلغ وهجه عواصم القرار.

ورغم الكر والفر بين مؤشرات توحي بأن الحرب في الشرق الأوسط مرشحة للبقاء طويلاً وبين محاولات كبحها عبر تفكيكها بالديبلوماسية، فإن اختبارات من نوع المساعي الحثيثة للتوصل إلى هدنة في غزة أو «الاحترام المتبادل» لقواعد الاشتباك في جنوب لبنان والقنوات الخلفية لضبط إيقاع صواريخ الحوثيين في البحر الأحمر، تتصدر المشهد في الميدان وعبر الهواتف الحمر.

ولم يكن عابراً أن تتزامن التقارير عن المصاعب التي مازالت قائمة أمام إحداث كوة لإمرار الهدنة في غزة مع قفز إسرائيل للمرة الرابعة منذ حرب المشاغلة في جنوب لبنان فوق جغرافيا قواعد الاشتباك مع «حزب الله» بشن غارة ليلية على حي العسيرة في بعلبك (شرق لبنان)، الأمر الذي أعاد إلى الميدان حماوته بعد خفوت نسبي مرده في أغلب الظن إلى «رسائل» من خلف خطوط النار، أقرب إلى فحص النيات.

فبعد منتصف ليل السبت - الأحد، شنّ الطيران الإسرائيلي غارة بأربعة صواريخ في العمق اللبناني، مستهدفاً مبنى من أربع طبقات في حي العسيرة في بعلبك، وهو على مقربة من منزل «العقل التكنولوجي» في «حزب الله» حسان اللقيس، الذي كانت اغتالته إسرائيل بعملية كوماندوس ليل 3 – 4 ديسمبر عام 2013، وسط معلومات عن أن الغارة أسفرت عن سقوط جرحى، وهو ما أكده محافظ البقاع بشير خضر.

ولم تتأخر وسائل الإعلام الإسرائيلية عن الإعلان عن أن الغارة، وهي الرابعة في غضون ستة أشهر على بعلبك التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن خط المواجهة على الحدود «استهدفت مستودعاً لتصنيع الأسلحة لحزب الله رداً على إطلاقه في وقت سابق مسيرة إلى منطقة كفر بلوم».

ولأن «الجولان مقابل بعلبك وبالعكس»، وهي واحدة من قواعد الاشتباك المستحدثة لحفظ «توازن الردع» بين إسرائيل والحزب رد الأخير على الغارة الليلة بتصويب نحو 60 صاروخاً باتجاه الجولان، معلناً استهداف قاعدة يواف وثكنة كيلع التي كانت تتدرّب فيها قوة من لواء غولاني بعد عودتها من غزة.

ولم يقتصر تمدد جغرافيا قواعد الاشتباك على هذا النحو بل قامت إسرائيل ظهر أمس، وللمرة الأولى بالإغارة على سيارة في منطقة الصويري (البقاع الغربي) القريبة من الحدود اللبنانية - السورية ويُعتقد أنها عملية اغتيال في سياق استهداف إسرائيل المتكرر لرماة صواريخ أو لمَنْ هم على صلة بالملف الفلسطيني أو لكوادر من الحزب على صلة بالميدان.

مصادر خبيرة في شؤون وشجون خط التماس اللبناني - الإسرائيلي رأت في هذه «الطفرة» من المواجهات المتبادلة من فوق جغرافية قواعد الاشتباك (بعلبك – الجولان) محاولة يفهمها الطرفان لإعادة النيران إلى مسرحها الأساسي على عمق الـ5 كيلومترات على طرفي الحدود.

وأبدت المصادر ميلاً إلى القول إن جبهة جنوب لبنان لن تخرج عن انضباطها لأن أولوية إسرائيل هي الإعداد لاقتحام رفح وتجنب توسيع نطاق الحرب للحؤول دون اتساع الهوة مع الأميركيين، ولأن لا مصلحة للحزب في الذهاب إلى حرب مدمرة تزيد من إنهاكه، ولا تريدها إيران التي تنأى عن أي مسار قد يودي بها إلى مواجهة مع الولايات المتحدة.

ولم تسقط هذه المصادر من حسابها هاجس إسرائيل، المصابة بـ«هلع وجودي» من إمكان تكرار «7 أكتوبر» من على الحدود اللبنانية وإصرارها على ترتيبات تضمن عودة المستوطنين إلى الشمال، وهو الأمر الذي يضعها أمام مأزق خيارات، فلا هي قادرة على إبعاد «حزب الله» عن الحدود عبر اجتياح بري ولم تسفر الضغوط الديبلوماسية حتى الآن عن «هندسة» أي صيغة حدودية تطمئنها.

ولفتت المصادر إلى أن زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لواشنطن لمناقشة عملية توريد الأسلحة والذخائر إلى جيشه لتمكينه من اجتياح رفح، وتالياً فإن لا قدرة لإسرائيل على توسيع دائرة الحرب ضد لبنان لحاجتها إلى جسر جوي لن تستجيب له الولايات المتحدة. ومن هنا فإنه كلما اقترب غزو رفح ابتعدت جبهة جنوب لبنان عن الواجهة.

وثمة خشية تعبّر عنها تلك المصادر من جنوح إسرائيل نحو «حرب أمنية» عبر اغتيالات تعتقد أن من شأنها تسديد ضربات موجعة للحزب، من جهة وتأمين أوراق قوة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مواجهة خصومه في الداخل بعدما تزايدت الاعتراضات على بقائه على رأس الحكومة. ولقد برزت طلائع هذه الحرب في تفكيك شبكات تجسس وفي رفع الحزب من إجراءات التحوط في مناطق نفوذه.

غير أن المقلق لدى الدوائر السياسية في بيروت هو أن ما من أفق واضح لمآل حرب غزة، التي اشترط «حزب الله» وقفها لإنهاء خدمة «حرب المساندة» على جبهة الجنوب، الأمر الذي من شأنه استمرار «تعليق» العملية السياسية في الداخل، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات والبدء بورشة إصلاحية للخروج من الحفرة المالية السحيقة.

ومن المرجح في هذا السياق ترحيل أيّ حراك داخلي أو ديبلوماسي لإبقاء المشاورات في شأن الانتخابات الرئاسية في «غرفة الإنعاش» إلى ما بعد عيد الفطر، وفي انتظار ما ستؤول إليه المساعي الدولية - الإقليمية للتوصل إلى هدنة في غزة، يمكن أن تستدرج محاولات جدية لمناقشة الترتيبات لمعاودة تقويم القرار 1701 في الجنوب وفك أسر الرئاسة في الداخل.