ليس جديداً أن يحاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي مجمع الشفاء الطبي في شمال غربي غزة ويباغته، إذ دخلت قواته مع بداية الحرب، في أكتوبر من العام الماضي، إلى المجمع وعاثت فيه خراباً وتدميراً واعتقلت العشرات من المدنيين كما فعلت في الساعات الأخيرة، من دون أن يفرّق هذا الجيش بين مرضى وأطباء وإعلاميين ومدنيين.
إلا أن توقيت عودة جيش الاحتلال إلى مستشفى الشفاء واحتلاله – الذي يُعد خرقاً للقانون الدولي ولاتفاقية جنيف الحافظة للمستشفيات في أوقات الحرب - يتزامن مع قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعودة الفريق التفاوضي الإسرائيلي إلى الدوحة مع صلاحياتٍ محدودة بعد مماطلةٍ طويلة من دون أن يكون هناك أمل في وقف الحرب الوحشية على قطاع غزة ومدنييه.
منذ أواخر أكتوبر 2023، اقتحمت إسرائيل شمال قطاع غزة لتعلن سيطرتها عليه من دون أن تنجح في وقف العمليات التي دأبت المقاومة عليها منذ أكثر من خمسة أشهر.
وحاصرتْ تل أبيب المناطق الشمالية وأفرغت نحو 700.000 مدني من أصل 1.1 مليون من سكان المناطق الشمالية نحو رفح ليبقى نحو 400.000 مواطن أُغلقت الطرق عليهم وحُرموا دخول المواد الغذائية ليجوعوا ويُستخدموا كأداة ضغط على المقاومة من خلال التجويع والتنكيل بمَن تبقى من العائلات التي تعيش مآسي القتل والجوع والتهديد الدائم بالقتل.
وقطعتْ إسرائيل الشمال عن الجنوب عبر إنشاء طريقٍ بطول 6.5 كيلومتر يُسمى بـ «معبر نتساريم» تمهيداً لفصْل القطاع إلى شطرين وبدأت بإنشاء ممر بحري لإيجاد رصيف على بعد 2 إلى 3 كيلومترات داخل البحر المتوسط في الشمال الغزاوي لتتحكّم بتوقيت التسليم وكميات الغذاء الواردة مستقبلاً، توطئةً لاحتلال مدينة رفح الجنوبية.
ولغاية اليوم، فشلت إسرائيل – على الرغم من قتلها عشرات الآلاف من المدنيين وجرحها أكثر من 74.000 وتدمير جزء كبير من غزة – في تحقيق أهدافها المعلَنة بتحرير الأسرى وإنهاء المقاومة وتدمير جميع الأنفاق.
وكلما تعلن أنها انهت العمليات العسكرية في منطقةٍ ما تعود لضربها بالطائرات والمدفعية وتدفع بدباباتها من جديد إلى المناطق المعلَنة «محرَّرة ومُسَيْطَر عليها».
من هنا، يبدو أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى تهجير المزيد من المدنيين حيث كان هناك نحو 30.000 من طالبي الايواء في منطقة مجمع الشفاء الطبي، حيث يَعتبر الغزاويون المنطقة محميةً من حيث القوانين الدولية. بالإضافة إلى ذلك، فقد طلب هذا الجيش من المدنيين في المنطقة الشمالية المغادرة، فتوجّه العديد منهم نحو شارع الرشيد البحري للتوجه نحو مناطق جنوبية في دير البلح حيث مازالت تدور معارك شرسة، ما يُعد تطهيراً عرقياً واضحاً بحسب القوانين الدولية لتهجير مدنيين من منطقة إلى أخرى غير آمنة.
إلا أن هناك أهدافاً إسرائيلية أكثر وضوحاً تفسر هذا الهجوم: فإسرائيل تريد التدرب على الاقتحامات في المناطق الشمالية داخل غزة مثلما يفعل جنود الاحتلال في الضفة الغربية. وهذا يمهّد لبقاء القوات الإسرائيلية على مسافة ليست ببعيدة عن جميع المناطق في غزة بما يمكّنها من العودة حيث تشاء وإذا اعتقدتْ أن لديها مَهمة أمنية معينة. وهذا جزء من خطةِ ما بعد الحرب التي بدأ جيش الاحتلال ينفذها تدريجاً لكسر الرهبة لدى الجنود والضباط مستقبلاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المناورة العسكرية تهدف إلى الضغط على المقاومة الفلسطينية قبل معاودة المفاوضات المتوقفة في محاولةٍ لتليين موقف المفاوضين الفلسطينيين. فرئيس الوزراء الإسرائيلي يتلكأ في إرسال الوفد الإسرائيلي ولا يعطيه الصلاحيات اللازمة لإنجاز الاتفاق لأنه لا يرغب في وقف الحرب ولا يقدم أي تنازل مقابل إطلاق سراح المحتجَزين الإسرائيليين والفلسطينيين، خصوصاً لوقف الحرب وانسحاب جيشه من مدن غزة.
كما تريد إسرائيل تحويل شمال غزة منطقةً غير صالحة للسكن، وإفساح المجال لمَن يرغب في المغادرة بالرحيل بحراً بعد انتهاء إنشاء الرصيف الإسرائيلي – الأميركي.
فجميع الدلائل تشير إلى أن نتنياهو يعمل على بقاء جيشه داخل مناطق محددة – وليس في الأحياء الصغيرة – ليدخل إلى غزة حين يشاء، وهو يجهز لمنطقة عازلة حول كامل القطاع بعمق كيلومتر إلى كليومترين.
ويتهيأ أيضاً لدخول رفح بعد إخراج المليون ونصف المليون منها. فهو لا يستطيع وقف الحرب إلا إذا حقق انتصاراً ما يقدمه لمجتمعه الداعم للحرب والمنقسم فقط حول الأولويات ليس إلا (أي إطلاق سراح الإسرائيليين ومن ثم إكمال الحرب) وذلك كي يتفادى المحاسبة التي تتدلى من سيف مصلت على عنقه إذا فشل في أهدافه.
أما الانتصار الذي يسعى إليه نتنياهو، فله وجهان هدف داخلي وآخّر خارجي: داخلياً، هو يريد تقديم ورقة احتلال غزة لمجتمعه الذي أصبح أكثر تطرفاً، وتدمير ما يستطيع، وقطْع طرق الإمداد على المقاومة من رفح ومن ثم الانسحاب إلى مناطق قريبة يتمركز فيها لتبقى غزة مسرحاً للعمليات العسكرية الدائمة.
بالإضافة إلى ذلك، فهو دمر جزءاً كبيراً من غزة وبنيتها التحتية ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها والماء والكهرباء لدرجة أن إعادة البناء تحتاج لسنوات طويلة وأموال طائلة أملاً في قلب الرأي العام الفلسطيني على المقاومة.
أما الهدف الخارجي، فيرتكز على أن نتنياهو أصبح لاعباً رئيسياً في الانتخابات الأميركية، مبرزاً خلافاته العميقة مع الرئيس جو بايدن وإدارته ليُظْهِرَه عاجزاً عن تحقيق وقفٍ لإطلاق النار. وفي الوقت عينه، فرض نتنياهو الحصولَ على الدعم العسكري الأميركي اللامحدود والتغطية الديبلوماسية اللازمة في الأمم المتحدة مهما اعترض بايدن على آداء الحكومة الإسرائيلية ورئيسها.
وهذا يسلط الضوء على ضعف رئيسٍ أميركي يصارع مرشحاً آخَر، دونالد ترامب، على الرئاسة ويتجلى عجزُه عن إظهار أميركا قوية كما يستطيع المرشّح الآخر المُنافِس. هذا ما يرغب نتنياهو في إظهاره، هو الذي يستمدّ الدعم من مجتمعه مقدّماً نفسه الصامد أمام أميركا لِما يراه مصلحةً لإسرائيل باحتلال كامل غزة من دون وقف إطلاق النار وقتل ما تيسّر له من الفلسطينيين.
إنها مسألة عض أصابع يحددها الميدان حيث أصبح نتنياهو في موقع يريد إطالة أمد الحرب بينما ترغب المقاومة في حل سريع من دون أن يكون لديها خيار التنازل والاستسلام.
ويبقى مستقبل غزة قاتماً وغير واضح لتحدّد مصيرَه أسابيعُ الحرب المقبلة.