لا أزال أتذكّر أحد أعلام المتخصصين في العلاقات الدولية وهو يؤكد أن غزو العراق للكويت وتحريرها لا ينفك عن التغييرات الهيكلية للنظام الدولي، حيث تزامن مع أفول نجم القطب الثاني في العالم المتمثل في الاتحاد السوفياتي وبداية ثورات 1989م في دول أوروبا الشيوعية!

ولعل هذا الطرح يبدو في وهلته الأولى غريباً أو ساذجاً بالنسبة لبعض من يعرضون أنفسهم كنشطاء أو مختصين في الشؤون السياسية، ولكن حقيقة هذا الاستنتاج مُسْتَل من النظرية البنيوية مثلما طرحها المفكر وعالم نظرية العلاقات الدولية البروفيسور كينيث ولتز.

إذا ما وضعنا الحرب على غزة تحت مجهر التشريح السياسي المتخصص فسنجد استدلالات عدة تشير إلى أن هذه الحرب ذات علاقة أيضاً بالتغييرات الهيكلية التي يشهدها النظام العالمي.

لا يمكن تصور كل هذه الحرب ومفاعيلها وتكلفتها السياسية والاقتصادية والإنسانية التي تتكبدها دولة مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الكبرى من خلال هدف واحد يتمثل في القضاء على «حماس» فقط! بل الأمر يبدو أن الذي نصب الفخ يطمح لصيد أكبر من العصفور!

دعونا نعود إلى الوراء بوقت قبل حرب غزة خصوصاً منذ حرب أوكرانيا. هذه الحرب دون شك لم تنشب إلا في وسط متغيرات تفوق حجم أوكرانيا، حيث تتصل بتعملق روسيا في المناطق الآسيوية المحاذية لأوروبا خصوصاً في محيط منطقة البلطيق «استونيا ولاتفيا وليتوانيا» مضاف لها دول شبه جزيرة البلقان التي تمثل العمق الإستراتيجي لروسيا العظمى، فضلاً عن تطلعاتها في منطقة وسط آسيا التي تشمل كلاً من أوزبكستان وتركمانستان وقرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان.

ومن جهة أخرى، تترصد الولايات المتحدة وحلفاؤها النهوض السياسي غير المسبوق للصين على الضفة الأخرى في آسيا ومناطق الاندوباسيفيك «حسب التسمية الأميركية» أو آسيا الباسيفيك «حسب التسمية الصينية».

إنّنا هنا نقول النهوض السياسي وليس الاقتصادي؛ لأن الصين بدأت تتخذ خطوات سياسية وإستراتيجية تمتد من مناطق الباسيفيك مروراً في وسط آسيا وصولاً لمنطقة الخليج عبوراً من إيران خصوصاً بعد عقد الصفقة العسكرية والسياسية معها والتي لا يزال الكثير من بنودها غير معروف.

هذه الثنائية الآسيوية واليوروآسيوية التي تقودها كل من روسيا والصين بالتعاون مع إيران شكلت حلقة إستراتيجية متعددة الأبعاد الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية بشكل غير مسبوق بحيث إنها لو استمرت في الاتساع «ستحرر»: القارة الأم «آسيا»، والقارة البنت «أوروبا»، ولربما القارة الأب «أفريقيا»؛ من الهيمنة الثقافية - السياسية للغرب عموماً والسيطرة الإستراتيجية الاحتوائية للولايات المتحدة الأميركية بوجه خاص، والتي ربما تمتد أمواجها إلى القارة الحفيدة «أميركا الجنوبية».

وقوف الدول الأوروبية والولايات المتحدة مع أوكرانيا لم يكن بدوافع إنسانية خالصة فذلك شعار قد سقط في وحل غزة، بل إن هذا التأييد غير المشروط لكييف كان ولا يزال محفزاً بالتصدي لتحركات روسيا التي أوجست الريبة من بعض الدول الأوروبية وأميركا في مضايقة موسكو عبر أوكرانيا.

خلال هذه المواجهة الروسية - الأوروبية الأميركية ربحت الصين هدفين؛ الأول: تنامي صادراتها ومداخيلها الاقتصادية، حيث بدأت تقدم البدائل الصناعية لما نتج من شحة على أثر هذه الحرب؛ كما أنّها حققت هدفا ثانيا: يتمثل في تصاعد تكاليف تلك الحرب على منافسيها، وخاصة أميركا، في وقت استنزاف موارد الأخيرة، وهذا من شأنه أن يحقق اختلالاً في ميزان القوى لصالح بكين، خاصة في إطار المعادلة الصفرية بين القطبين الدوليين.

لذلك، فلا غرابة من التحرك الأميركي لتقويض خطط ومشاريع الصين وشركائها الآسيويين، وخاصة إيران، التي تتصل بما يطلق عليه بمبادرة الحزام والطريق «أو ما يصطلح عليه أحياناً بخطوط طريق الحرير»، وهذا التحرك بدا واضحاً منذ الانسحاب من أفغانستان وزرع نسخة طالبان المحدَّثة لتقوم بدور المخرب لمشاريع الصين، وفي الوقت ذاته تطرح واشنطن مشاريع موازية من خلال إستراتيجية الانتشار إلى الإمام التي تتضمن تقديم مساعدات اقتصادية ثنائية لبعض الدول الآسيوية والمحيط الهادي، وكذلك اتفاقية شراكة المحيط الهادي، إلى جانب مشروع الممر الاقتصادي بالشراكة مع الهند ودول آسيوية وخليجية.

غزة في كل ذلك تمثل عقدة الحل والربط التي يجب أن يتم احتواؤها من قبل أميركا وبعض الدول الأوروبية والكيان الصهيوني لإغلاق منطقة الشرق الأوسط بوجه تمدد النفوذ الثلاثي للصين وروسيا وإيران، أو أن تكون في الاتجاه المعاكس ضمن ذلك المسار الثلاثي المنافس للهيمنة الأميركية.

فمثلما لا يمكن أن يقبل التحالف الأميركي الإسرائيلي باستمرار غزة المشاكسة وكثغرة إستراتيجية مستقبلية، فالطرف المنافس لا يمكن أن يسمح باحتلالها أو ببسط الهيمنة عليها لأهميتها الجيوإستراتيجية بين دول المحيط الأميركي.

الصين كدولة رئيسة مناهضة للهيمنة الأميركية ومتطلعة لقيادة النظام العالمي: هي الأكثر ربحاً حتى الوقت الراهن من حيث إنَها لم تتورط بشكل مباشر في دفع بعض فواتير هذه الحرب مثل أميركا وبعض الدول الأوروبية، والصين وروسيا وايران أيضاً لا يمكن أن تترك مصير عقدة الحل والربط (غزة) لتدخل في الحظيرة الأميركية!

هذا الصراع سيدوم أكثر مما نتصور، ولا نعلم ماذا سيؤول إليه! هل هي حرب باردة بين الوكلاء أم مواجهة ساخنة بين الفرقاء! بالخلاصة، كلتا الحالتين تؤكد أن حرب غزة ما هي إلا أحد مفاتيح المنافسة على ميزان القوى العالمي وتشكيل النظام الدولي المقبل الذي ستمتد إرهاصاته على كل العالم ومنها منطقة الخليج، وأستطيع كمختص التوسع في هذا الموضوع والاستدلال عليه بشكل أكبر من حيز مقال صحافي.

ولكن السؤال؛ ماذا يمكن أن نتعظ أو نستفيد من هذا السيناريو المعقد؟ لا بد من التفكير المعمق المختص في هذه التطورات وبشكل علمي قائم على أسبابه، وليس كمثل الذي يعرضه بعض «دلالي» السياسة في سوق النخاسة.